نحن أمة نائمة تصحو دائما متأخرة، ثم عندما تتحرك يكون الحراك عكس عقارب الساعة، فتتقدم إلي الخلف. مدهش جداً ردود الفعل المصدومة والمنزعجة من قرار الكاوبوي الأمريكي الاعتراف بالقدس عاصمة موحدة لإسرائيل وكأن القرار الأمريكي جاء مفاجئاً، مع إن التحركات الإسرائيلية والضغوط الصهيونية كانت تمضي قدما في وضح النهار، وقد بدأت استعداداتها التقنية لعملية نقل السفارة منذ أوائل العام الجاري. وترامب بدوره لم يخف أبدا نواياه في نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلي القدس، كما أن موعد تجديد آلية »التنازل التنفيذي» المتبعة منذ 22 عاماً التي تتيح للرئيس الأمريكي تأجيل تنفيذ قرار الكونجرس بنقل السفارة ويوقعها ويجدد الرئيس توقيعه عليها كل ستة أشهر محدد ومعروف سلفاً. ربما كان استحضار ترامب لتلك الآلية مرتين بعد انتخابه رئيساً، واعتيادنا علي أن يقدم كل مرشح أمريكي للرئاسة نفس التعهد بنقل السفارة للقدس في خطابات حملته الانتخابية لكنه يتراجع بمجرد انتخابه هو الذي جعلنا نركن إلي حسن النوايا والثقة في صديقنا الجديد بالبيت الأبيض، علي الرغم من أنه لم تكن هناك ثمة بوادر باعتزام ترامب مواصلة التأجيل سوي في أوهام وأحلام أمتنا النائمة. كل ردود الأفعال العربية الرافضة والمنددة بالقرار الأمريكي لم تصدر إلا عندما بادر ترامب بإبلاغ الدول العربية بعزمه علي القرار الكارثي. وحتي بعد إعلان القرار كان أول تحرك عربي بعد السبات العميق هو اجتماع وزراء الخارجية غداً السبت أي بعد ثلاثة أيام من القرار الأمريكي! ومن حقك أن تتساءل كأي مواطن عربي ساذج ماذا عساها أن تكون نتائج اجتماع الوزراء العرب؟ كذلك من حقك أن تتساءل عن مكان اختفاء لجنة القدس العربية التي تعولها المملكة المغربية طيلة الشهور الماضية منذ انتخاب ترامب؟ الدولة الصهيونية بدأت تستثمر القرار الأمريكي بشن حملة دبلوماسية لإقناع عدد من الدول الصديقة وإقناعها بحذو حذو واشنطن، وبالفعل بدأت بعض تلك الدول كالفليبين والتشيك في إعلان اعترافها ومن المنتظر أن تركز تل أبيب جهودها مع بعض الدول الإفريقية المسيحية التي وطدت علاقاتها بها مؤخراً لكي تنقل سفاراتها إلي القدس ومن ثم تقوض حجة أهمية المدينة المقدسة للمسيحيين وتدب إسفينا بين بلدان العالم المسيحي كما دقت الأسافين بين البلدان العربية والعالم الإسلامي. كذلك ستتدثر إسرائيل بالقرار الأمريكي لمناطحة المجتمع الدولي والرد علي تصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة، بأغلبية »151 دولة» ضد تبعية مدينة القدس لإسرائيل، ونفيها أي صلة للقدس بإسرائيل. ومن الضروري الانتباه إلي سعي إسرائيل الحثيث لتغيير الوضع القانوني الشائك والمعقد لمدينة القدس، فوفق قرار الأممالمتحدة بتقسيم فلسطين عام 1949 أفرد للقدس وضع خاص تحت تصنيف »كيان منفصل» بحيث تدار عن طريق هيئة دولية علي أن يتقرر وضع المدينة عبر المفاوضات بين الإسرائيليين والفلسطينيين. وبعد أن احتلت إسرائيل القدس عام 1967 لم يكن في المدينة سوي بضع سفارات أجنبية تعد علي أصابع اليد وبعد 1982 لم يبق بالقدس سوي سفارتي كوستاريكا والسلفادور حتي 2006 وباقي السفارات موجودة في تل أبيب، إذ لم تجرؤ دولة واحدة علي الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، حتي الأمريكيون المولودون بالقدس لم يتمكنوا من اعتبار إسرائيل مكان الميلاد في أوراقهم الرسمية. الآن وبعد القرار الأمريكي الكارثي سيتغير كل هذا وقد يصبح من السهل التأثير علي دول العالم بتغيير قرارات الأممالمتحدة ونزع المظلة الدولية التي كانت تحمي القدس ولو علي الورق من الاحتلال الإسرائيلي. إن المساس بالمكانة القانونية والسياسية للقدس يفرض علي مجلس الأمن الدولي والأممالمتحدة مسئولية عاجلة لحماية قراراتها التي نصت عليها وآخرها القرار 2334 الذي نص علي حماية الوجود الفلسطيني في المدينة في إشارة واضحة للتعبير عن رفض المجتمع الدولي لأي قرار يتخذه الرئيس الأمريكي بنقل سفارة بلاده. الآن تطالب الخارجية الأمريكية إسرائيل بخفض جناح الذل من الرحمة وعدم التهليل للقرار الأمريكي لعدم استفزاز ردود فعل إقليمية وعالمية عنيفة. الكرة الآن في ملعبنا لعلنا ندرك المحطة الأخيرة للقطار ونلعب علي ما تبقي من ضمير عالمي وعلي ورقة المصالح الاقتصادية تلك الورقة الرابحة دائماً.