أقدر جيدا أصحاب المبادرات الشجاعة الذين يمتلكون القدرة علي اقتحام المشكلات المزمنة والرؤية لإيجاد الحلول لها. كثيرون ممن يعرفون الدكتور طارق شوقي وزير التعليم يقولون إنه من هذا الصنف من الناس ويعولون كثيراً علي محاولته وجهوده في تطوير التعليم المصري والعودة به إلي ما كان عليه قبل عقود من مكانة لائقة حين كان أبناء الشعوب الشقيقة يفضلون الدراسة في مصر، ويفضلون استجلاب المدرس المصري لكفاءته. وبنظرة سريعة سنكتشف أن عدداً من حكام وقيادات الدول العربية من الأجيال الستينية هم من خريجي الجامعات المصرية. ولّي هذا الزمن وراح وأصبحنا نشهد الآن أحط مستويات التعليم في العالم وأكثرها تواضعاً، ولو نجح وزير التعليم في استعادة هذه المكانة لكفاه هذا إنجازاً للعمر كله. ولكن.. حتي لو كانت لدي الوزير الرؤية الشاملة لإصلاح التعليم، والمنهج التدريجي الممرحل لتنفيذ رؤيته، يبقي السؤال هل ننسف تعليمنا القديم من القمة أم من القاعدة؟ هل نمنع صداع الثانوية العامة بإلغائها أم نعدل نظامها؟ وهل النسف أو التعديل سيمنع الآفة الكبري التي تفحشت وتوحشت وأقصد بها الدروس الخصوصية؟ الوزير يقول إن النظام التراكمي الذي يقترحه سيحول الثانوية العامة إلي سنة نقل عادية وبالتالي سيخفف أو يزيل صداع الثانوية العامة الذي تنوء به الحكومة لكن ماذا عن رءوس وكواهل الأسر المصرية، هل استمع الوزير للأهالي المكتووين بنارها؟ هل ضمن أن إلغاء الثانوية العامة سيريح أولياء الأمور من عبء الدروس الخصوصية؟ أظن أنه العكس، فالنظام التراكمي سيضع الطلاب وأولياء الأمور تحت ضرس مدرس المادة فهو الذي سيتحكم في وضع تقديرات أعمال السنة وفي وضع الامتحانات وفي نتائج امتحانات التيرم. وغالبية المدرسين - وليس جميعهم بالطبع - لن يقاوموا مشاعر التعاطف مع تلاميذهم في الدروس الخصوصية والانحياز لهم، وبعد أن كان صداع الثانوية يستمر عاماً واحداً سيلازم الأسر المصرية ثلاثة أعوام. الرد طبعاً سيكون أن الحل في تأهيل المدرس علمياً وتربوياً وأيضاً في تحسين وضعه المادي، لكن لنكن صرحاء.. مهما ارتفعت دخول المعلمين هل ستعوض أو تقترب من دخولهم من الدروس الخصوصية؟ المشكلة المزمنة أصبحت في مدي قناعة المعلم برسالته التربوية والإنسانية. أذكر أن والدتي رحمها الله كانت من »رجال» التعليم وحين كانت تعمل في بداية حياتها المهنية بالتدريس ويُطلب منها إعطاء الدروس الخصوصية كانت تشعر بالمهانة والغضب لأن هذا يعني في نظرها اتهاماً صريحاً بالتقصير في أداء مهمتها داخل الفصل أو أنها فاشلة لا تستطيع توصيل المعلومة لتلاميذها ! في زمن فائت كان إعطاء الدروس عاراً وسُبّة في جبين المعلم الذي كاد أن يكون رسولاً. الآن نواجه أزمة في اقتحام منظومة القيم التي اختلت علي مر السنين، والتحولات الأخلاقية التي اجتاحت المجتمع فجعلت من كاد أن يكون رسولاً يمد يده لتلقي أجر الدرس الخصوصي من تلميذه ويناقشه في الأجر ففقد هيبته ومكانته الرسولية، وأصبح المدرس الذي لا يجد إقبالاً من طلابه علي الدروس الخصوصية فاشلاً في نظر أقرانه ومن يعطي درسه الخصوصي في الاستاد أو في قاعة أفراح ومؤتمرات مثار فخر بنفسه وحسد من زملائه. الوزير مع كل التقدير لأفكاره الثورية لم يقترب - ولا أظنه مستطيعاً - من الأزمة الأخلاقية وللحق هي أزمة أكبر من أي وزير وتحتاج لخطة أخري لإعادة بناء الإنسان والشخصية المصرية يجب أن تبدأ من القاعدة، أي منذ التكوين قبل المدرسي وليس من الثانوية العامة، خطة تشمل تطوير مناهج التعليم الإلزامي وتأهيل مدرسيه ليكونوا علي أعلي مستوي مهني، فتلك هي مرحلة وضع الأساس لأي بناء، ولنعترف بأن التعليم الإلزامي حتمي للتخلص من الأمية ومجانيته ضرورة في مجتمع فقير يسعي وراء لقمة العيش ويري في قبيلته كثيرة العدد ثروة بشرية تجلب الرزق دون عناء في التعلم.