في شهر رمضان الكريم يطيب لي العودة إلي قراءة الكتب التي كونت وجداني .. اعيد قراءتها واتوقف عند المعاني التي حفزتني إلي المعرفة، ومن اهم هذه الكتب العبقريات التي كتبها الاستاذ العقاد، ويتناول فيها بعض الشخصيات التي تركت بصماتها ولاتزال في عقول المسلمين علي مر العصور وعلي رأسهم النبي الخاتم محمد عليه الصلاة والسلام.. انني اقرأ هذه الكتب فتفتح لي بابا.. بل ابوابا للمعرفة وتعمق نظرتي إلي الحياة بما اكتسبته من هذه القراءة، ومن حياة صاحب العبقريات نفسه الذي يعتبر احد عمالقة المفكرين في عصرنا الحاضر. وخير من تحدث عن العقاد هو العقاد نفسه وهو يسرد قصة حياته ودخوله مجال الفكر والشعر والثقافة في كتابه الذي نشر بعد رحيله تحت عنوان «أنا». انه يتحدث فيه عن حالته الفكرية والنفسية وارائه ووجهة نظره في مختلف القضايا، وينفي عن نفسه انه رجل مفرط الكبرياء، ورجل مفرط القسوة والجفاء، وانه يعيش حياته بين الكتب، بعيدا عن مشاكل الناس ويقول ان عباس العقاد علي هذه الصورة رجل لا يعرفه ولا عاش معه لحظة، ولا التقي به في طريق، بل انه رجل مفرط في التواضع ورجل مفرط في الرحمة واللين، يميل إلي المرح وحب الناس.. وكان العقاد يقول عن ايمانه: «أؤمن بالله.. أؤمن بالله وراثة وشعورا وبعد تفكير طويل وكان يفند القول بالارتقاء الدائم عن طريق المصادفة زعم يهون معه التصديق بالخرافات وخوارق العادات في تركيب الاجسام او الاحياء. ويقول: والقول بأن المادة تخلق العقل كالقول بان الحجر يخلق البيت، وان البيت يخلق السكن فيه، وايسر من ذلك عقلا بل الزم من ذلك ان يقال ان العقل والمادة موجودان، وان احدهما ان يسبق الاخر ويخلقه هو العقل لان المادة لا توجد من هو افضل منها وفاقد الشيء لا يعطيه. فانا أؤمن بالله وراثة وأؤمن بالله شعورا وأؤمن بالله بعد تفكير طويل. والعقاد الانسان الذي يعيش في دنيا الناس، لابد انه مر كما يمر بكل انسان بتجربة الحب، وقد تحدث عن هذه التجربة في قصته الوحيدة «سارة». ويحلل فلسفته في الحب تحليلا دقيقا، بما خلاصته علي حد تعبيره: وخلاصة التجارب كلها في الحب انك لا تحب حين تختار ولا تختار حين تحب، واننا مع القضاء والقدر حين نولد وحين نحب وحين نموت، لان الحياة وتجديد الحياة وفقد الحياة هي اطوار العمر التي تملك الانسان ولا يملكها الانسان. والعقاد الأديب والشاعر والناقد يطول الحديث عنه ويستوعب مجلدات ولكن من اجمل ما كتب العقاد هو ما كتبه عن عبقريات عظماء الاسلام وفي مقدمتهم بالطبع الرسول الخاتم محمد عليه الصلاة والسلام فهو اعظمهم. واذا كان من الطبيعي ان تقول علي المتفوق في مجال من المجالات انه عبقري، فإن محمدا بن عبدالله عليه الصلاة والسلام كان عبقريا في كل المجالات.. الدعوية والعسكرية والسياسية، والادارية، وكان مثالا يحتذي كصديق وزوج ورب اسرة. وهو كعابد فاقت عبادته لله كل المناسيب، وهذه السنة التي استنها الرسول الكريم في عبادته هي كثرة التفكير في خلق الله واجتناب التفكير في ذات الله فقال في حديث: «تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله». وقال في هذا المعني : «تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في الله فتهلكوا». وقال في حديث قدسي : «كنت كنزا مخفيا فأحببت ان اعرف، فخلقت الخلق لاعرف». او كما جاء في رواية: «فخلقت الخلق فبي عرفوني» ويقول عن طريق الوصول: ان خلاصة هذه الاحاديث وما في معناها ان التفكير في حقائق الوجود هو طريق الوصول إلي الله، ولا طريق غيره للحواس ولا للعقل ولا للبديهة: ايمان بالوجود الابدي في صفته المثلي، وتفكير في حقائق الوجود كما نراها ونحسها ونعقلها وذلك قصاري ما عند العقيدة، وقصاري ما عند الفلسفة، وقصاري ما عند القلم. اذ يقف العلم عند حده. وهذا هو العلم الذي فرضه الاسلام علي كل مسلم ومسلمة. وقال النبي في رواية ابن عباس: «انه افضل من الصلاة والصيام والحج والجهاد في سبيل الله» لانه سبيل الوصول إلي الله. ويقول العقاد: اما عبادة الشعائر الظاهرة فهي عبادة الاسلام كما فرضت علي جميع المسلمين.. يصلي النبي ويصوم ويحج ويؤدي الزكاة علي الشريعة التي يتبعها كل مسلم، وقد يطلب إلي نفسه في هذه العبادات ما ليس يطلبه إلي غيره، علي سنة السماحة والتيسير التي اثرت عنه في كل عمل من اعماله وكل سجية من سجاياه، فكان اخف الناس صلاة علي الناس واطول الناس صلاة لنفسه وربما قام الليل اكثره او اقله ولا يدين احد بالتهجد كما كان يتهجد، او بالصلاة والصيام كما كان يصلي ويصوم، بل قد نهي الناس ان يشتدوا في العبادة فيصبحوا كالمنبت «لا ارضا قطع ولا ظهرا ابقي» لان الناس جميعا يتلقون الامر بالعبادة كما يتلقون الامر بفريضة واجبة فهم في حاجة إلي الرفق والتيسير. اما النفس المنظورة علي العبادة فالصلاة عندها مناجاة حب وفرحة ومطاوعة لميل الضمير وميل الجوارح علي السواء. ومن خلال صفحات كتاب «عبقرية محمد».. يرينا كيف كان التاريخ قبل ميلاده شيئا، وكيف اصبح بعد الرسالة الخالدة شيء اخر. وهو يري ان العبقرية قيمة في النفس قبل ان تبرزها الاعمال، ويكتب لها التوفيق، وهي وحدها قيمة يغالي بها التقويم، فاذا رجح بمحمد ميزان العبقرية، وميزان العمل، وميزان العقيدة، فهو نبي عظيم، وبطل عظيم، وانسان عظيم. بهذه القدرة الهائلة علي التحليل يأخذنا العقاد في باقي عبقرياته عن عظماء الاسلام، من خلال فهمه والقاء الضوء علي مفتاح الشخصية، وبهذا يجعلنا نبحر معه في عبقرية الصديق، وعمر، وعلي، وخالد بن الوليد، وسيرة عثمان بن عفان، فنقف عند مواطن العظمة فيهم، وفي الاسلام الذي كون هذه المدرسة الرائعة.. مدرسة النبوة، وتلاميذها العظام، الذين نشروا مباديء الاسلام وقيمه وشرائعه وحضارته التي غزت القلوب والعقول، ومدت أنوار الاسلام في كل بقاع الدنيا.