بيتنا الذي كان يطل علي الكلية الحربية تاه بين العمارات الشاهقة، لم يعد «الخيّالة»، يخرجون في الصباح فنسمع وقع حوافر الخيل علي الإسفلت، لم يعد الجنود يقولون «إنك إن لمست شجرة صرت شجرة»، تمنحك الشجرة شيئا من روحها، وتمنحها شيئا من روحك، هكذا تعلمنا، حين كنا ندور حول أمهاتنا في المطبخ، وهن يصنعن ساندوتشات الرحلة إلي «الميريلاند»، حديقة مصر الشهيرة في الستينيات، تفترش الأمهات الخضرة، ليثرثرن وعيونهن معلقة بالأطفال وهم يجرون إلي البعيد، ثم يعودون، يشربون من حنفيات المياه النظيفة، ويغسلون أياديهم قبل الأكل وبعده في أحواضها الجميلة الصغيرة، ويطوون الملاءات المفروشة مع أمهاتهم في آخر النهار، وماتناثر من أكياس. حين كبرنا قليلا في السبعينيات، كنا ندخر من مصروفنا اليومي لنذهب مرة في الشهر إلي كازينو الميريلاند الشهير، حيث كانت ترقص سهير زكي، ونرقص نحن أيضا علي أنغام فرقة «الجيتس» و»لبيتي شاه»، وكنا نشهد علي قصص الحب الوليدة، ونعرف أننا سنحضر، هاهنا، حفل خطبة قريب.لايعرف سر مصرالجديدة إلا من عاش فيها، لايعرف قصر البارون إمبان (من بني مصر الجديدة) إلا بنات مدرسة مصر الجديدة الثانوية، حين كن ينظرن إليه خلسة من نافذة المدرسة ليهربن من الدرس، ويبحثن عن الأشباح التي تسكنه، كما زعموا، علها تظهر لهم في صورة فتي جميل، في مطلع النهار. لا يعرف مترو مصرالجديدة إلا أبناء مدارسها الحكومية وبناتها، يتواعدون في المحطات، كأنهم يضبطون مواعيدهم علي إيقاع العجلات البطيئة، وصوت النفير. لايعرف معني كلمة «تحت البواكي» إلا سكان الكوربة، ومايحيط بها، من مبان بسقف مرتفع، وشرفات «يمرح فيها الخيّال». حين علت العمارات في مصرالجديدة، بأسقفها الحديثة الواطئة، وبشققها الفاخرة، كنا نعرف أنها لم تعد مصرالجديدة، لم نعد نعرف حدودها، تمددت، كأنها «بتتمط»! هبط عليها الأثرياء الجدد، صارت سينيماتها الصيفية جراجات كي تستوعب السيارات، وصار المترو يعوق حركتها حين يتوقف فجأة في الإشارات، كضيف ثقيل، أو كعجوز مضجر، بيتنا الذي كان يطل علي الكلية الحربية تاه بين العمارات الشاهقة، لم يعد «الخيّالة»، يخرجون في الصباح فنسمع وقع حوافر الخيل علي الإسفلت، لم يعد الجنود يصفرون في أكشاك المراقبة كي يؤنس بعضهم بعضا في الليل الطويل، لم يعد أحدهم يفر من الخيالة فنخبئهم في بيوتنا وتطعمهم أمي «معلش دول غلابة زي عيالنا». صمتت الميريلاند سنوات وصارت مرتعا للأشباح، ثم افتتحوها من جديد، كنا قد كبرنا حين رأيناها مجمعا للمطاعم الشهيرة، رأينا جسورا صناعية تمتد علي بحيرات صناعية، رأينا أهل مصرالجديدة الجدد يعرفوننا أنواع الطعام الفاخرة، صارت مدينة لليل، للسهر، لكننا كنا ندخر من مرتباتنا أيضا كي نذهب مرة في الشهر، كما كنا قديما، نبحث عن آثار أقدامنا الصغيرة علي حشائشها، وننتزع صوت ضحكاتنا الأولي من أنياب ضجيج مطاعمها وموسيقاها الباهتة، ونلمس جذوع أشجارها العتيقة حيث اختبأنا صغارا في «الاستغماية»، صمتت الميريلاند سنوات أخري، وصارت مرتعا للأشباح: يقولون إن الأشباح اختبأت في لوادر عملاقة، وهبطت في الليل:»يقولون: إنها ابتلعت الأشجار، ويقولون: لا لم تبتلعها، أكلتها حتي انتفخت بطونها، ثم رمت أحشاءها لتكون عبرة لمن يفكر في أن يدخلها ثانية، يقولون: إن الأشجار لم تمت، كل مافي الأمر إنها صارت مجرد «قمامة»، سيحملونها في الصباح لمكان لايعرفه غيرهم، يقولون: إن المسؤولين سيحاسبون من ذبح أشجارها، يقولون:إنها مجرد أشجار وسيزرعون أشجارا أخري مكانها لإصلاح الخطأ، أشجارا نظيفة لم تمسسها أيادي أولئك الصغار القدامي، لأنهم كانوا أطفالا كاذبين، ضحكوا علي أمهاتهم وأوهموهم بأنهم يغسلون أياديهم قبل الأكل وبعده، يقولون:.......»حين تركت مصرالجديدة منذ أعوام، هربا من ضجيجها، كنت أعرف أن لي شجرة هناك، أبحث عنها الليلة في الصور المذاعة علي القنوات، أبحث عنها كمن يتفقد عزيزا بين الأنقاض، لا لأنني شخص مترف، وإنما لأنهم علمونا صغارا أنك «إن لمست شجرة صرت شجرة».: