الضوضاء.. والصراخ.. والضجيج.. والأصوات النابحة باتت تطاردنا في بيوتنا وأزقتنا.. وشوارعنا.. وفي المواصلات العامة.. وفي المتاجر والمطاعم التي تقدم وجبات الكوارع بالتقسيط.. وفي كل مكان يتحرك فيه المصريون علي مدار الساعة. الضوضاء وأصوات مكبرات الصوت.. والتعبيرات الساقطة التي تجري علي ألسنة البعض منا من باب الترويح عن النفس.. باتت من ملامح حياتنا.. وحلت محل البلهارسيا والأنيميا والانكلستوما.. ولم تعد تلفت أنظار أحد..منذ تفاقمها اثر اندلاع الحالة الثورية المجيدة في 25 يناير 2011. الضوضاء.. باتت من السلوكيات المقبولة.. بعد عقود طويلة تراجعت خلالها القيم المصرية التقليدية.. والأخلاق والشهامة والمثل العليا.. التي كان الطفل المصري يتعلمها وهو في «اللفة» في حجر المرضعة.. وتراجع معها الدور التربوي والوطني الذي كانت تقوم به المدارس.. من أجل الارتفاع بمستوي التعامل وأصول الحديث.. ودرجات الصوت التي يجري التعامل بها عند النطق بالكلمات..كل هذه القيم العادية تراجعت خلال عقود طويلة.. حتي أصبحت مع الأيام شيئا مقبولا.. ولم تلفت أنظار الأجهزة الرسمية المعنية بمراقبة التحولات السلبية في المجتمع.. ولم تخلع قلوب.. رجال التربية والتعليم من كبار السن.. الذين كان عليهم دق أجراس الخطر منذ سنوات طويلة.. ازاء ما يعايشونه في المدارس الحكومية.. من تدهور المستوي الأخلاقي بين التلاميذ بشكل لم تكن تعرفه مصر في تاريخها الحديث.. وبالتالي لم تعد المدارس أداة لتخريج المواطن الصالح المهذب.. وإنما باتت المنبع لتزويد المجتمع بالبلطجية وأصحاب الأصوات النابحة.. الجامحة.. الذين هبطوا بمستوي الأخلاق في البلد.. ورفعوا سقف الأصوات النابحة.. التي باتت تقلق الأموات في قبورهم.. وتحرق الجامعات وتدمر المنشآت.. وتتحرش بالسيدات. *** والمثير في الموضوع أن تفاقم ظاهرة الضوضاء.. واستخدام مكبرات الصوت.. وتبادل الحديث بين الناس بأصوات عالية.. جاءت من الأطراف الرئيسية المنوط بها المحافظة علي السلوكيات العامة.. وفي مقدمتها الزوايا الصغيرة المنتشرة بشكل مذهل في كل أزقة المدن.. والمساجد الكبري التي تسرف في استخدام مكبرات الصوت عند الأذان.. وعند الصلاة.. وعند إلقاء الدروس الدينية.. وعند الوضوء أحيانا! الضوضاء.. تقلق راحة المرضي.. وتزعج الأطفال.. وتصيب الكل بالاعياء.. داخل بيوتهم.. ومعقل راحتهم.. ومقر سكينتهم.. وتتسلل إليهم تسلل الأفاعي إلي الحصون والمعاقل.. وتجعل من المساجد مصدرا للازعاج والتأفف.. بدلا من أن تكون هاديا للأخلاق والتواضع في استخدام الأصوات التي قد تقلق تلميذا تقطع الواجبات المدرسية أنفاسه.. أو مريضا يلهث من أجل العلاج. الأصوات الصادرة عن المساجد.. لا تمت للإسلام بأدني صلة.. وهي أقرب لأصوات مشاجرة فيها الضرب واللكم والصفع واللطم.. وتبادل اللعن والشتم.. بمقولات متوارثة عن شعراء الهجاء.. فيها الكثير من الحض علي القتل وسفك الدماء.. وتدمير الأوطان.. وليس فيها جملة واحدة تشير إلي الدور التربوي الذي يتعين علي المساجد الاضطلاع به.. في زمن نحن فيه أحوج ما نكون لوحدة الصف.. ووحدة الهدف.. واتقان العمل واحترام الابداع.. كي نواكب الزمن الذي نعيشه.. ولا نتخلف فيه عن مسيرة الأمم الراقية.. يضاف إلي ذلك انه في الوقت الذي تساهم فيه المساجد بنصيبها الوافر.. في نشر ثقافة الضوضاء.. نجد ان العديد من برامج التليفزيون تكرس لهذه الثقافة.. بالتنافس العجيب بين مقدمي هذه البرامج.. بالأصوات النابحة.. التي تخوض غمرات المعامع كل ليلة.. ويختلط فيها الجد بالهزل.. بالصراخ تارة.. والصياح تارة أخري.. وبالتلويح بالتهديد والتقريع لمسئولين لا تظهر علي الشاشة سوي صورهم.. لا تنطق ولا تتكلم! وبدلا من أن تكون الفضائيات التي تقتحم البيوت كل ليلة.. هي منارة الهداية.. لما يتعين عليه الكلام.. بلا نواح ولا صراخ.. وما يتعين عليه مقدم البرنامج كقدوة.. للملايين الذين يتطلعون إليه.. باعتباره المثل الأعلي.. نجد.. للأسف.. ان هذه الفضائيات كانت في مقدمة أسباب تدهور لغة الحوار بين عامة الشعب وفي الضجيج والضوضاء التي تطاردنا علي مدار الساعة. اختفت من شاشاتنا.. وجوه المذيعات اللاتي دخل بهن التليفزيون بيوتنا.. وقدمت كل واحدة منهن الصورة الحقيقية للتربية المنزلية السليمة.. والعادات والتقاليد الراقية وآداب الكلام.. والخجل المهذب الذي يكسو الملامح.. وتخفق له القلوب.. اختفت سلوي حجازي وأماني ناشد.. وليلي رستم ونجوي إبراهيم.. واختفت معها مدرسة.. أشاعت بين المشاهدين متعة الكلام.. ومتعة الاستماع.. ومتعة النظر!.. مجرد النظر كان يكفي.. بلا صراخ.. ولا عويل.. في هذا الزمن الجميل لم نكن نعرف مقدمة البرامج التي نري في كل شعرة في رأسها مخلب أسد يمتد إلي فريسته! *** نحن الآن نجتاز مرحلة مهمة في تاريخنا الحديث تقتضي إعادة النظر في منظومة السلكيات التي شابها التدهور في السنوات الأخيرة بسبب حالة الفوضي التي سوف نعبرها بسلام بإذن الله. وعلينا.. ونحن علي أبواب مرحلة البناء.. والتحديث.. ومواكبة التقدم.. ان نبدأ بإعادة النظر في السلوكيات السلبية التي أدت للتدهور الذي وصلنا إليه.. وان نفكر في إعادة بناء «الإنسان».. الذي هو في الحقيقة قاطرة التقدم.. وأن نكرس الجهود.. لمكافحة الضوضاء والتلوث السمعي.. والصراخ.. والنباح.. وهي العوامل التي تعكس ثقافة البلطجة.. وإحراق الجامعات.. وضرب الأساتذة.. وان نربي أطفالنا وهم في «اللفة».. وفي سن الرضاعة.. علي الاستماع لعزة بلبع!