اتساءل عن معني تجلي الله سبحانه وتعالي في الثلث الأخير من الليل.. حلمت بزيارة مدينتين: بكين، وبغداد.. الحلم الأول تحقق، وتبقي الثاني معلقاً.. أصبح عقلي وقلبي معلقين بمواطن الحضارات، وليس هناك أهم من الصين ومصر وبغداد في موازين الحضارات.. زرت الصين قبل سنوات، ولكن كانت الوجهة إلي شنغهاي عاصمتها الاقتصادية.. هذه المرة كانت الوجهة إلي بكين الأمر بالتأكيد مختلف وما يستحق الزيارة كثير. الاتجاه شرقا يحتاج إلي استعدادات نفسية وبدنية كبيرة، فأنت تطير في اتجاه الشمس أينما ذهبت تجد الشمس قد سبقتك بعكس الاتجاه غربا كلما ذهبت حل الليل.. ذهبت إلي بكين عبر دبي.. ساعات ثلاث مرت سريعا وأنا أمتع ناظري بأكبر صالة في مطارات العالم للبضائع المعفاة من الجمارك في السوق الحرة، وتبدأ بعد ذلك رحلة طويلة امتدت إلي ست ساعات طرنا فيها علي ارتفاع يعادل 31 كيلو مترا فوق سطح البحر.. ارتفاع يعادل المسافة بين مدينة قويسنا، وبين مدينتي، شبين الكوم، ولكن هذا في الجو.. سبحان الله. في كل أسفاري أحاول أن اضبط بوصلتي الداخلية، والخارجية، وأعرف مواعيد الصلاة أفكر في هذا الأمر ملياً، وفي تعاقب الليل والنهار أمام ناظري من خلال شباك الطائرة.. كل شئ نسبي.. ولكن يقيني أن كلمة الله تعالي علي مدار الساعة فأنا أطير الآن فوق نقطة ما حان فيها وقت آذان الظهر، وتحركت الطائرة إلي نقطة مجاورة ليرفع الآذان في الدقيقة، وربما الثانية التالية بمعني أن كلمة الله، وآذانه مرفوعان علي مدار الساعة مع تعاقب الليل والنهار.. اتساءل عن معني تجلي الله سبحانه وتعالي في الثلث الأخير من الليل ليسأل عباده هل من مستغفر فإغفر له، هل من تائب فأتوب عليه، يتساءل العبد الباحث عن النور، أي ثلث نقصد؟، وماذا نعني بتعاقب ملائكة الليل والنهار، هؤلاء يسلمون المهمة لهؤلاء، أي ليل وأي نهار؟.. انها مقدرة الله ومشيئته وخلقه وإبداعه الذي أراد سبحانه أن تكون كلمته علي مدار الساعة وأن يكون سبحانه متجليا بعظمته وجبروته، وصفاته القدسية علي مدار الليل والنهار إلي أن تقوم الساعة. عشق مبكر عشقي للصين بدأ منذ سنوات الدراسة المبكرة، وتأصل هذا العشق بعد ان أصبحت محررا متابعا لشئون الآثار والثقافة والتراث، وأدركت معني ما نملك من تراث إنساني، وأدركت بالتبعية قيمة ونصيب الصين من هذا التراث.. ما يجب زيارته في بكين كثير، ويحتاج مثل زيارة مصر، إلي أسابيع، وربما شهور، ولا تكفي فيه زيارة واحدة بل زيارات. ومن زار بكين، ولم يزر المدينة المحرمة فهو لم يزرها.. الجو وقت الزيارة حار، وزد علي ذلك وقل أنه جو خانق، ورطب.. الكل يسير بزجاجات مياه مثلجة، والباعة الجائلون يعرضون عليك بيع المياه المثلجة في كل مكان.. ها هي المدينة المحرمة في الجهة المقابلة لميدان إسلام السماوي وهذا الميدان له حكاية سأعود لها فيما بعد.. أقف في طابور طويل يحتشد فيه عشرات الآلاف، أكرر عشرات الآلاف لدخول المدينة القرمزية المحرمة التي كانت في الأصل مقرا للأمبراطور.. المدينة عبارة عن عدة قصور استغرق تشييدها 41 عاما، وبداخلها ما يقرب من مليون قطعة فنية نادرة ويضم القصر ما يقرب من 008 مبني وحوالي 0078 غرفة.. ويحيط بالقصور نهر »هوتشنغ« للدفاع عن المدينة.. وقد أطاحت الثورة الصينية بكل هذا وأصبح أثرا وأدرجته منظمة »اليونسكو« في قائمة التراث الإنساني الذي يخضع لحماية.. هذه المدينة التي ظلت محرمة علي الشعب الصيني نفسه، حتي أصبح ما يدور بداخلها أقرب إلي الخرافات والأساطير، هذه المدينة يزورها كل طلعة شمس عشرات الآلاف من داخل وخارج الصين، أتجول في المدينة، وأعود بفكري إلي مصر، إلي القاهرة، وأسوان والأقصر، وإلي عشرات وربما آلاف البقاع الأثرية والتراثية في مصر التي جعلناها بمحض إرداتنا مناطق محرمة علينا.. ونتعامل معها علي أنها »مساخيط«، ونبدي استغرابنا من هؤلاء السياح »الهبل« الذين يأتون من آخر بلاد الدنيا، وينفقون عشرات الآلاف من أجل رؤية هذه الحجارة. استمتعت بما رأيت في المدينة المحرمة من منطلق تقديري لهذه الحضارة التي تقترب هامتها من قامة الحضارة المصرية القديمة، ولكني ومع كامل احترامي وجدت ان الكفة الحضارية تميل لصالحنا.. ولكنهم في الصين استثمروا ذلك أحسن استثمار وبقينا نحن في حالة انشغال دائم بما لا يفيد. زحام مروري اعتذرت المرشدة السياحية التي كانت ترافقنا بأن زيارة أي مكان داخل بكين سوف يستلزم مدة طويلة لأن الازدحام المروري في بكين أحد أهم المشكلات التي يعانون منها.. قالت جريس، هكذا اسميها، بعد ان كان غالبية الصينيين يستخدمون الدراجات في تنقلاتهم حدث تغيير جذري في آخر عشر سنوات، وأصبح الجميع يستخدمون سياراتهم بعد النمو الاقتصادي الرهيب الذي شهدته الصين.. جريس تري الصين بلدا ناميا، ورغم هذه القفزة الاقتصادية التي يعيشونها إلا أنها تعاني، وغيرها صعوبات الحياة فهي في حالة صراع دائم مع لقمة العيش، ووظيفتها هذه نافسها فيها أكثر من عشرين.. وكان ردي عليها أن وظيفتها يتنافس عليها ربما أضعاف هذا الرقم في مصر.. ورغم تعداد سكان الصين المرعب إلا اني استطعت ركوب الاتوبيس في بكين وفشلت في ذلك في القاهرة.اليوم موعد صعود سور الصين العظيم.. هناك عدة نقاط محددة يمكن فيها الزيارة اختاروا لنا أقرب نقطة، احتاجت التحرك بالاتوبيس قرابة ساعة ونصف الساعة من العاصمة بكين. أخيرا وصلنا وبدأنا الصعود.. مشهد يستعصي علي الوصف، فالسور تجسيد للإرادة الإنسانية التي لا تقهر، فأي إرادة هذه التي صنعت هذا السور بهذا العرض، وهذا الطول ليمتد علي حدود الصين الشمالية، والشمالية الغربية والشرقية والجنوبية ليصل إلي حوالي 007.6 كيلو متر بعرض يقترب من 6 أمتار وبارتفاع يتراوح بين 3 إلي 8 أمتار.. بناه الصينيون سنة 122 ق.م لحمايتهم من هجمات الشعوب الشمالية من أتراك، ومنغول ومنشوريين. رحلة الصعود شاقة، ولكن رحلة العودة كانت أكثر صعوبة، لأنني اعاني من »فوبيا« الأماكن المرتفعة، ووهن العظم، وولي الشباب وتبين ان الشيب لم يصب الشعر فقط بل أنه امتد إلي كافة أجهزة الجسم.. في رحلة صعود السور تعرفت إلي وفد سوري جاء للتدريب عدة شهور في بكين وتبادلنا القلق علي مستقبل بلدينا، وافترقنا بعد دعاء متبادل بأن تتغير الأحوال إلي أحسن حال.. علي مدي البصر كانت الغابات تمتد.. أعجبني السور، وأعجبت أكثر بإرادة الإنسان التي تصنع المستحيل.. وما أراه أمام ناظري هو المستحيل بعينه. المطعم الصيني الأكل الصيني، لمن لا يعرف، يصدم من يتعرف عليه لأول مرة.. ويتندر من زار بكين بمقلب البط المحمر الذي ستفاجأ عندما تبدأ في التهامه أنه غارق في العسل، نعم العسل أو في عصير البرتقال.. ليست المشكلة في التعامل مع العصيان الخشب التي حاول محمد هنيدي أن يأكل بها، ولكن الأمر أكبر من ذلك ويحتاج إلي وقت للتعود.. الجهة المضيفة للوفد المصري اقتصرت الطريق وقررت أن يكون طعامنا اليومي في مطعم إسلامي. رمضان في الصين استظلني رمضان ، وقت الزيارة ، وأنا مازلت في بكين.. ذهبنا إلي حيث المطعم الإسلامي، هكذا اقرأ يافطة المطعم، بخط عربي أقرب إلي الخط الفارسي في مدخل المطعم قرأت الآية الكريمة »فكلوا مما رزقناكم حلالا طيبا واشكروا نعمة الله ان كنتم إياه تعبدون« صدق الله العظيم.. وفي مدخل المطعم طابور طويل يستعدون لشراء طعام الإفطار وتناوله في البيت. بعد العودة من الصين قرأت أن السلطات الصينية تتخذ إجراءات سلبية تجاه الصينيين المسلمين، وتحاول إجبارهم علي الإفطار حتي لا يتأثر آداؤهم.. الاحصاءات الرسمية تتحدث عن 42 مليون مسلم صيني من قومية »الايجور«.. والتقارير الصحفية المحايدة تتحدث عن اضطهاد هؤلاء الايجوريين بسبب دينهم.. وهناك مسلمون من عرقية ال»هان« وهؤلاء لا يتكلمون سوي اللغة الصينية بعكس الايجور الذين يتحدثون التركية. رحلة العودة في رحلة العودة من الصين أوقعت نفسي في مشكلة وكلفت نفسي مالا طاقة لي به.. وشققت علي نفسي فشق الله عليّ.. السبب كان إصراري علي الصيام في رحلة العودة، رفضت الأخذ برخصة الصيام من أجل السفر، فبقيت صائما قرابة 32 ساعة، لأن فارق التوقيت بين العاصمتين يبلغ ست ساعات وكان تحركي من الفندق قبل الفجر بساعتين.. تساءلت هل أفطر علي توقيت بكين التي طرت منها أم علي توقيت دبي التي نزلت بها ترانزيت لمدة ثلاث ساعات أم بتوقيت القاهرة التي وصلتها قبيل آذان المغرب بساعة لأصل بيتي قبيل صلاة العشاء »ربنا ولا تحملنا مالا طاقة لنا به واعف عنا وأغفر لنا وارحمنا انت مولانا فانصرنا علي القوم الكافرين«. حسرة وندامة شعرت بالخجل من نفسي، وأنا اسير الهوينا في إحدي حدائق بكين العامة، أتحسس خطواتي حتي لا تفاجئني آلام الظهر، بسبب حركة غير محسوبة، أما سبب هذا الشعو فهو منظر الآلاف من كبار السن الذين يخرجون صباح كل يوم إلي الحدائق العامة وينخرطون في ممارسة الرياضة بكل اشكالها علي انغام الموسيقي.. هذا رجل فوق الستين يلف الحلقة وهذه سيدة تجاوزت السبعين وتدفع بأقدامها اثقالا ينوء بحملها أمثالي من الذين عجزوا قبل الآوان وغزا الشعر الأبيض كل رءوسهم. شعرت بحسرة وندامة علي حالنا في مصر فليس لدينا أصلا حدائق نشم فيها الهواء، واختفي الرصيف، ونصف نهر الطريق المخصص للسيارات وقام الباعة الجائلون بضمه إلي امبراطوريتهم.. حياتنا نقضيها محبوسين في السيارات، من وإلي اعمالنا، وإذا عدنا إلي منازلنا افترسنا أشاوسة الفضائيات.. حياة كلها سأم ومرض.هناك الحدائق مزودة بكل ما يشجع علي حياة صحية سليمة، أجهزة ومعدات مصنوعة من خامات تتحمل، ومتاحة للعامة ولمن يريد.المواطن هو رأس المال الحقيقي لأي دولة تريد أن تنهض. أدب الظلام لم أهتم يوما بأن يكون في بيتي شمعة، فماذا أفعل بها؟ ولست من هؤلاء الذين يرون فيها إضافة رومانسية.. ولم أهتم يوما باصلاح أو استبدال المصباح الاحتياطي الذي يعمل بالشحن ليضئ تلقائيا عندما ينطفئ النور.. لست في حاجة إليه أنا أقطن في حي الدقي، ولم يقطع النور يوما عن بيتي إلا مرات لا أتذكرها.. هذا ما كان حتي الصيف الماضي ، الذي أصبح فيه انقطاع الكهرباء من مفردات اليوم.. الامر بدأ بمرات متباعدة وأصبح أمرا مقررا بصفة دورية ويوميا ولعدة ساعات. الأسباب كثيرة كلها تصب في اتجاه أن الأمر لم يعد كما كان والمطلوب ترشيد. أحد اقتراحات الترشيد، كان اغلاق المحلات مبكرا في العاشرة مساء والمطاعم في الثانية عشرة.. الأمر قد يبدو غريبا مع أنه من علامات التحضر وانتهي الامر بتراجع الحكومة عن الفكرة برمتها. معظم العواصم العالمية التي نتمني أن نشد الرحال إليها تتوقف فيها معالم الحياة الساعة التاسعة مساء.. وتغلق المحلات أبوابها ويذهب الناس إلي بيوتهم من أجل يوم عمل جديد يستقبلونه قبل اشراقة ذلك الصباح.. أما نحن فالأمر يختلف كليا فيما ان تنزل قرب منتصف الليل لتفاجأ ان المرور في شارع مثل شارع فيصل متوقف من شدة الزحام، وان المحلات والمطاعم والمقاهي تعمل بكامل طاقتها.. هل هم المتحضرون أم نحن؟.. أترك لكم الاجابة. ويبقي السؤال ونحن في موسم الشتاء هل تتكرر ظاهرة الشموع في الصيف المقبل ام لا ؟ محفوظ في القلب تحتفل مصر بذكري نجيب محفوظ، ثلاث مرات بيوم مولده، ويوم وفاته، ويوم حصوله علي نوبل، ومع كل احتفال نكتشف كم كان هذا الأديب الكبير عملاقا عظيما وأننا لم نوفه حقه كما ينبغي، وفي ندوة اكتشفت شيئا طريفا اسمعه ربما لأول مرة وهو أن نجيب محفوظ كان لديه دأب وجلد يحسد عليهما.. فلا يغلق بابا حتي يفتح الآخر، وبعد تخرجه في الجامعة ذهب إلي الوزارة طلبا لبعثة في فرنسا لدراسة الفلسفة وعندما سأله الموظف قال له نجيب محفوظ، رد عليه الرجل بجملة لم يفهمها، قال له: أخذنا الأعداد الكافية من الطائفة، وذهب نجيب محفوظ إلي البيت وقلب الأمر في رأسه وعاد إلي الرجل واكتشف انه استبعده لأنه مسيحي وأن عددا من المسيحيين سافروا بالفعل في البعثة.. وطارت البعثة من نجيب محفوظ لينكب علي حلمه في أن يكون روائيا وقد كان.