نبىل زكى آلاف العقول من كل الدول ساهمت في صياغة هذا الاعلان.. فهو ثمرة لكفاح الجنس البشري وعصارة لجهد انساني عظيم الاثنين: يصادف العاشر من ديسمبر.. مرور 46 عاما علي صدور أول وثيقة دولية تعني بحقوق الانسان، هي الاعلان العالمي لحقوق الانسان الذي صدر في عام 8491 بمساهمة مصرية وعربية متميزة ودون اعتراض من جانب أي دولة عربية. في تقرير كاتب هذه السطور انها مناسبة لتقديم التحية للمفكرين والرواد العرب الذين لعبوا دورا تاريخيا في وضع أول وثيقة دولية لحقوق الانسان.. وفي المقدمة الدكتور »محمود عزمي« الرائد والمفكر المصري، و»شارل مالك« المفكر اللبناني. وهل يمكن ان نغفل -بهذه المناسبة- الرعيل الأول من المفكرين الذين اجتهدوا لكي يشقوا الطريق الصعب نحو ثقافة الديمقراطية وحقوق الانسان وعلي رأسهم رفاعة الطهطاوي والشيخ محمد عبده من مصر وعبدالرحمن الكواكبي من سوريا، وخير الدين التونسي وطاهر حداد من مصر. وقد عكف محمود عزمي علي ملاحقة أوجه نشاط الأممالمتحدة منذ تأسيسها عام 5491 من خلال متابعة أعمال مجالسها ولجانها. هذا الرجل الذي كان يؤمن بالعلم، وصاحب الدعوة لثورة اجتماعية، وأقوي المدافعين عن حرية الصحافة لم يشغله عمله كأستاذ للاقتصاد في مدرسة التجارة العليا أو دوره الفعال في إثراء النهضة الصحفية في مصر، والتصدي لكل من يحاول الاعتداء علي حرية الرأي.. عن حقوق الانسان في العالم باعتبار ان هذه الحقوق غير قابلة للتجزئة بل هي مترابطة ومتكاملة. هكذا نجد الاعلان التاريخي يؤكد علي عالمية حقوق الانسان، بمعني انه لا يجوز استثناء شخص واحد في أي منطقة من المعمورة من التمتع بحق الحياة والعمل والغذاء والسكن والعلاج والتعليم والراحة وبكل ثمار الابداع الفكري والأدبي والفني. وعلي المجتمعات والأنظمة الحاكمة تأمين هذه الحقوق.. لكل انسان. البعض يخطيء عندما يتصور ان »حقوق الانسان« بضاعة غربية، والصحيح أنها ثمرة لكفاح الجنس البشري عبر التاريخ.. ونتاج تضحيات غالية قدمها الأحرار في كل مكان في مواجهة كل أشكال الظلم والقهر والاستعباد، كما انها عصارة تفاعل الحضارات والثقافات علي طول الزمان. ولذلك، فإن »عالمية« حقوق الانسان تقتضي صياغتها في اطار مواثيق محددة تهتدي بها الأمم وتلتزم بها الدول.. وهي »عالمية« لأنها ترتبط بكيان ومعني الانسان.. كانسان وبوضوح اكثر.. فانه لا محل للزعم بأن هناك شعوبا مؤهلة للتمتع بهذه الحقوق بسبب لون بشرتها أو تعاظم ثرواتها المادية أو قدرتها العسكرية أو بسبب دين الأغلبية فيها.. بينما هناك شعوب اخري تنتمي الي درجة أدني، وبالتالي.. فانها غير مؤهلة للتمتع بهذه الحقوق، لأنها محرومة من الثروة ولا تملك قدرات عسكرية أو تنتمي الي دين معين.. أو ليست من الجنس الأبيض! ويخطيء البعض مرة أخري عندما يتوهم ان عالمية حقوق الانسان تلغي الخصوصية الثقافية لأي مجتمع.. فهذه الخصوصية لا يمكن ان تتعارض مع حقوق أساسية ترتقي بالكائن البشري.. وتحميه من وحوش الغابة داخل مجتمعات تسحق الانسان وتجرده من كرامته وانسانيته. ثم ان احترام هذه الخصوصية لا يعني الاحتفاء بكل ما هو سلبي فيها، حيث ان الخصوصية التي نحتفي بها هي تلك التي ترسخ شعور المواطن بالكرامة والمساواة والقدرة علي تلبية متطلبات حياة لائقة وتثري ثقافته وتكفل مشاركته في ادارة شئون بلاده. وهناك من يتصور ان توفير لقمة العيش أهم من حقوق الانسان. وتعلمنا تجارب التاريخ ان مصادرة حقوقنا المدنية والسياسية كانت السبيل التي تمهد لحرماننا من الحد الأدني للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.. ذلك ان تجريدنا من حقوقنا السياسية والمدنية يجعلنا عاجزين عن الدفاع عن حقوقنا الاقتصادية والاجتماعية، أي لقمة العيش، ويحرمنا من مجرد القدرة علي الدعوة لوضع ضمانات لهذه الحقوق. وقد سمعنا في وقت من الأوقات شعار: »لا حرية بلا خبز« لتبرير الحرمان من حقوق الانسان، وتجاهل اصحاب ذلك الشعار انه من الصحيح ايضا انه »لا خبز بلا حرية«. ففي غياب حقوق، مثل الحق في الاجتماع والاحتشاد والتنظيم السياسي والنقابي والاهلي المستقل. وفي ظروف عدم توافر ضمانات حرية الرأي والتعبير والاضراب السلمي.. يصعب بناء القدرة علي الدفاع عن الحقوق الأخري، وأهمها الحق في مستوي معيشي أفضل، وأجور مناسبة، وعدالة اجتماعية شاملة.. كما يصبح الفقراء -في هذه الحالة- فريسة سهلة للقادرين واصحاب الثروات الطائلة.. بل ان غياب الحقوق المدنية والسياسية يجعل من السهل الاعتداء المتواصل علي حقوق الاقليات العرقية أو القومية أو الدينية. التزام وتعهد الثلاثاء: انعقدت الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورة استثنائية في قصر »شايو« في باريس. وقدم الدكتور شارل مالك، سفير لبنان، مشروع الاعلان العالمي لحقوق الانسان الي الاعضاء باسم لجنة الصياغة، التي عملت طوال سنتين لانجاز هذا المشروع، ولعب مقرر تلك اللجنة -شارل مالك- الدور الاكبر في التوصل الي الصيغة التي أجمع عليها العالم رغم النزاعات والصراعات بين المعسكر الشرقي والمعسكر الغربي. واختتم مالك عرض المشروع بالعبارة التالية. آلاف العقول من كل الدول ساهمت في صياغة هذا الاعلان. وكل عضو من اعضاء اللجنة تعهد بموجبه تعهدا قاطعا باحترام حقوق الانسان المنصوص عليها هنا بهذه الشمولية للمرة الأولي، والتقيد بها لأنها عصارة المباديء التاريخية لحقوق الانسان والحريات الأساسية المعبر عنها هنا بوضوح لا سابق له، وبدقة ومسئولية لم تحدث من قبل. وقال مالك: »... اذا لم تتقيد حكومتي، التي أولتني شرف توقيع ميثاق سان فرانسيسكو في 62 يونيو 5491 لتأسيس منظمة الأممالمتحدة،.. اذا لم تتقيد حكومتي بما تعهدت به، ففي وسعي ان أعارضها واتصدي لها وانا علي يقين اني -اذا ذاك- اتمتع بتأييد العالم كله، واذا لم تكن قوانين بلادي منسجمة مع المباديء التي يكرسها هذا الاعلان، فانه يجب تعديلها، لأن الاعلان العالمي ستكون له قوة الرقابة الفعالة التي تساعد علي تغيير الواقع. ونحن -الأممالمتحدة- سنفعل اكثر من ذلك: سوف نبرم اتفاقيات دولية علي أساس نص هذا الاعلان ثم نلحقها بتدابير تنفيذية تلزم الدول بالمحافظة علي حقوق الانسان والسهر علي تقييد الجميع بهذه الحقوق«. واحد من الرواد الاربعاء: الكاتبة »نجوي كامل« علي حق عندما تقول أن هناك كثيراً من الشخصيات المصرية التي كان لها تأثير في الحياة الفكرية والسياسية في مصر.. منها محمود عزمي، الذي عاش في عصر يتسم بالعديد من مظاهر التحول والتطور والتجدد. وما يلفت النظر هو اختيار محمود عزمي للصحافة لكي تكون وسيلته للتأثير في الرأي العام، فقد بدأ حياته الصحفية محرراً في جريدة »العلم«، التي كان يصدرها امين الرافعي لتكون لسان حال الحزب الوطني القديم في عام 2191 ثم عمل رئيساً لتحرير صحيفة »المحروسة« في عام 9191 وبعد ذلك عمل مراسلاً للأهرام في فرنسا وبريطانيا قبل ان يصدر - هو نفسه- صحيفة »الاستقلال« عام 1291، لكي ينضم - بعدها - الي صحيفة »السياسة« عام 2291، ويساهم في فترة لاحقة ابتداء من عام 8291 في اصدار عدد من الصحف المعارضة لحكم »محمد محمود«، صاحب القبضة الحديدية، ويعيد اصدار جريدة »وادي النيل« في الاسكندرية وجريدة »الشرق الجديد« في القاهرة، واللتين اغلقهما محمد محمود. ويضطر محمود عزمي للسفر الي فرنسا عام 1391، ثم يصدر من لندن صحيفة »العالم العربي« باللغة الانجليزية للدفاع عن القضية المصرية ومعارضة حكم الطاغية إسماعيل صدقي: ويعود عزمي إلي مصر عام 4391 ليشارك في تحرير جريدة »الجهاد« التي اصدرها توفيق دياب ويشهد عام 5391 تولي محمود عزمي رئاسة تحرير جريدة »روز اليوسف« اليومية قبل ان يصدر في عام 6391 صحيفة » الشباب« الاسبوعية، وعقب انتدابه للتدريس في معهد التحرير والترجمة والصحافة في عام 1491.. يستأنف كتاباته في الصحف المصرية ابتداء من عام 6491، سواء في مجلة »الكاتب المصري« الشهرية أو صحيفتي »صوت الامة« و »المصري« الوفديتين و »اخبار اليوم« المستقلة التي صدرت عام 4491، وهو نفس العام الذي قدم فيه استقالته من المعهد. واعتبر محمود عزمي ان الحرية هي كيان الصحيفة، إذ لا يمكن تصور وجود صحافة بالمعني الصحيح، الا إذا توافرت لها حرية ابداء الرأي علي اوسع ما يمكن، وكان يؤمن بأن حالة الصحافة في بلد ما هي الميزان الصحيح لحالة البلد ذاته من جميع نواحيه الثقافية والخلقية والسياسية. وتحدث عزمي عن الصحافة كسلطة رابعة وتمني ان تعامل الحكومات المصرية الصحافة بمثل ما تعامل به الحكومات الراقية صحافتها، وأعتبر ان مظهر الرقي لهذه الحكومات هو أن تعد الصحافة سلطة رابعة الي جانب الهيئات التشريعية والقضائية والتنفيذية. وقد واصل محمود عزمي دفاعه عن حرية الصحافة عندما تولي تمثيل مصر في لجنة حرية تداول الأنباء التابعة للأمم المتحدة حيث تقدم بمشروع عهد الشرف الدولي للصحفيين، الذي يعتبر قانون السلوك المهني لرجال الصحافة. ورغم وقوف دول كبري، علي رأسها أمريكا، ضد المشروع.. الا ان عزمي ينتصر وتوافق الجمعية العامة للامم المتحدة علي المشروع. وتتجلي ابداعات مفكرنا المصري عندما وقع عليه الاختيار لتمثيل مصر في لجنة حقوق الانسان، وهي اللجنة التي انشئت -في الأصل- لكي تقدم للمجلس الاقتصادي والاجتماعي في المنظمة الدولية اقتراحات وتوصيات وتقارير خاصة باعلان دولي لحقوق الانسان وباتفاقيات دولية عن الحريات الوطنية وحقوق المرأة وحرية الاعلام وحماية الاقليات وكيفية حظر التمييز بسبب الجنس أو النوع او اللغة أو الدين. وبسبب نشاطه، تم انتخابه رئيسا للجنة حقوق الانسان في مارس عام 3591 وأعيد انتخابه مرة أخري في مارس عام 4591. ويشارك الرجل في صياغة مشروع ميثاقين، أحدهما خاص بالحقوق السياسية، وثانيهما خاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.. ليكونا عهدين دوليين تلتزم بهما الدول لتنفيذ هذه الحقوق وتطبيقها علي مواطنيها. تلك مجرد لمحات موجزة عن مصري عظيم دافع عن حقوق الانسان وحريات الشعوب.