لا يخفي على أحد أن العلاقات المصرية الإثيوبية ليست حاليا في صحة جيدة, لأن هناك بالفعل أزمة سببها الإجراء المفاجىء الذي أخذته إثيوبيا بتغيير مجرى النيل الأزرق تمهيدا لبناء سد النهضة, ومما أدى إلى تصاعد حدة هذه الأزمة أن الرئيس محمد مرسي كان يشارك في قمة الاتحاد الإفريقي. وفي اليوم التالي لوصوله إلى القاهرة أعلنت إثيوبيا ما أعلنته حتى يبدو أن الرئيس مرسي موافق على هذا المشروع, وهذا غير صحيح.. ناهيك عن حالة التخبط التي بدا فيها رد الفعل المصري والهياج الشعبي إن صح التعبير خوفا من سياسة التعطيش التي بدأتها إثيوبيا تجاه الشعب المصري, فمن قائل إنه لابد من انتظار تقرير اللجنة الثلاثية ومن قائل إن الإجراء الإثيوبي هو أمر هندسي معروف, ومن قائل ثالثا إن سد النهضة سيؤثر حتما على حصة مصر المائية! باختصار.. لقد سممت إثيوبيا بإجرائها هذا أجواء العلاقات المصرية الإفريقية في وقت تريد فيه مصر أن تعود إلى حاضنتها الإفريقية وتقود مجددا حركة التحرر والتنمية والاستقلال وتصبح بالفعل كما قال حكيم إفريقيا الرئيس السنغالي الراحل سنجور أم حضارات إفريقيا. أيا كان الأمر, لابد أن نعترف بما كان يخفيه النظام السياسي السابق وهو أن إثيوبيا كانت تعتزم بناء هذا السد منذ فترة طويلة, وأذكر مناقشة حامية الوطيس كانت بين المفكر القومي المعروف مصطفى الفقي, وأحد وزراء الري في العهد السابق سأل فيها الأول: هل هناك اتفاقية تحكم العلاقات بشأن مياه النيل وتحديدا مع إثيوبيا التي يأتي منها النسبة الكبيرة من فيضان النيل؟ ولما أنكر الطرف الثاني ذلك, ثار د. مصطفى الفقي وقال محتجا: إن العلاقات بين دول حوض النيل يجب أن يحكمها مبدأ المصالح المشتركة, وأن تكون هناك معاهدات تحدد ما ينبغي لكل دولة أن تفعله! وكلنا يذكر التهديد الذي كان وجهه الرئيس السابق إلى بعض دول حوض النيل, بطبيعة الحال لسنا نريد أن نعيش مجددا هذه الأجواء, لتحل الحرب من أجل المياه محل الحرب من أجل النفط! ولكن الكل يعلم أن العلاقات الدولية تنبني على شيئين: الاحترام المتبادل, والمصالح المشتركة, والعلاقات مع إثيوبيا يجب أن تحكمها هذه القاعدة. وثمة نقطة غائبة عن المشهد وهي أن مياه النيل تحكمها بالفعل اتفاقيات تمنع من بناء سدود يمكن أن تؤثر على حصة مصر باعتبارها دولة مصب.. وإذا قمنا بتغيير هذه الاتفاقيات المتفق عليها فسوف يفتح ذلك مجالا أمام تغيير جميع الاتفاقيات السابقة وهذا معناه أن ملامح العالم الذي نعيشه سوف تتلاشى لتظهر ملامح جديدة لعالم جديد, وهو ما يجعلنا نتمسك بالاتفاقات القديمة.. ناهيك عن أن إثيوبيا لا تتحرك وحدها في هذا الملف.. فهناك إسرائيل التي تضمر الشر, كل الشر, لمصر باعتبارها العدو الكلاسيكي الوحيد للأمة العربية وسوء النية مع مصر والمصريين تتوافر على الرغم من معاهدة السلام القائمة بينهما. بعبارة أخرى, هنا يذكر أن بعض وحدات من الجيش الإثيوبي يقوم خبراء إسرائيليون بتدريبها, ظهر هذا جليا أكثر من مرة عندما كان هناك خلاف بين إثيوبيا وبعض الدول الإفريقية, ثم إن إسرائيل دأبت على أن توجد في إفريقيا بعد آن انسحبت مصر منها في زمن الرئيس عبدالناصر. بمعنى آخر, لقد تركنا إفريقيا لتضع إسرائيل أقدامها وبإحكام شديد في القارة السمراء, وهذا يعني أن بناء سد النهضة وتأثيره سلبا على حصة مصر المائية هو أمر مخطط له سلفا من قبل إسرائيل لأنها تعلم أن العبث بحصة مصر هو خط أحمر, وتعطيش الشعب المصري أمر لا يقبله أحد, ناهيك عن أن حصة مصر المائية حاليا لا تكفي الاستهلاك المحلي! بطبيعة الحال لست أرى أن الحرب مع الأشقاء الأفارقة هو الحل الأمثل لكن لابد أن نضع في اعتبارنا أن التهاون مع بناء هذا السد سيفتح الطريق أمام بناءات أخرى سواء داخل إثيوبيا أو في بقية دول حوض النيل. بمعنى آخر, تربطنا بإثيوبيا مصالح عديدة يتعين البناء عليها وأخذ الضمانات الدولية بعدم تأثير هذه البناءات على حصة مصر المائية, وتقوية جسور الوجود المصري في القارة السمراء والانشغال بتنمية هذه القارة التي ننتمي إليها, أما التخبط والارتباك وإطلاق تصريحات غير مسئولة من جانب البعض وإهمال الجانب الإثيوبي مع إنه الطرف الرئيسي في الأزمة.. أعتقد أن نتائج ذلك ستكون وخيمة, ستدفع ثمنها الشعوب باعتبار أننا بعد ثورة 25 يناير 2011 نعيش بالفعل عصر الشعوب لا عصر النظم أو الحكومات, بكلمة أخيرة: إن التشبح في معالجة هذه الأزمة سيؤدي إلى مزيد من الاشتعال.. وأحذر من التعالي في التعامل مع الأفارقة أو الشعور بأننا يجب أن نكون في المقدمة.. إن هناك مصالح بين الدولتين لابد من مراعاتها لأن إثيوبيا دولة منبع ومصر دولة مصب.. ولم تغفل الاتفاقات الدولية حقوق كل دولة, فلنعد إليها بأعصاب هادئة لمصلحة الشعبين. نقلا عن جريدة الأهرام