لا يمكن قراءة المشهد الداخلي في الأسبوع الماضي دون الغوص في بعض تفاصيله. وتفاصيله تبدأ وتنتهي من حيث نتوجه جميعا بالأمل في الغد الأفضل، وأقصد شباب هذه الأمة التي تحلم بمستقبل يصنعه شبابها، وتمنى نفسها بيوم تقف فيه وسط الأمم تتباهى بصناعة غد يليق بها. وبداية فإن وجود طاقة جبارة من الشباب المتحمس لقضايا وطنه يضيف ولا يخصم من رصيد السلطة، ولا يعني الخروج للتظاهر أن هناك عداوة أو خصومة بين الدولة والشباب، وإن كانت هناك فوارق في الحسابات بين طرف يعي أبعاد الصورة كاملة وبما يتصل بسياسات الأمن القومي والسياسة الخارجية، وطرف يرى من فرط حماسه ودون معلومات متكاملة أن ما يجري ضد مصالح الوطن. ففرط الحماس هو من دفع بعض شبابنا للجوء إلى خرق قانون تنظيم الحق في التظاهر، وإلى إعلان تحدي سلطة الدولة وعدم الاعتداد بالقوانين المنظمة لحق التظاهر، وإلى تكرار الموقف في أكثر من وقفة احتجاجية رغم خرق القانون بشكل واضح وهو ما تسامحت الدولة معه في المرة الأولى في الجمعة قبل الماضي، لكنها في يوم 25 أبريل اشتمت رائحة تكالب الانتهازيين والموتورين من أتباع الجماعة الإرهابية وأعوانهم للإستفادة من غضبة البعض من موقف قانوني وسياسي بعينه، لتوسيع دائرة الاحتقان واستغلالها في فوضى جديدة ظنا منهم أن الساحة مهيأة للقيام بأعمال شغب تؤدي إلى ثورة شعبية مثلما توهموا. تلك الجماعات وبعض الفوضويين من تيارات مختلفة لم يستوعبوا بعد المعاني العظيمة التي قامت عليها ثورة 30 يونيو وهي عدم العودة إلى الوراء مجددا، أو السماح بفوضى تضرب الوطن في مقتل مثلما يحلم هؤلاء المارقون. فحماس الشباب المصري الوطني لا يعني أنهم مجرمون، ولكن بعضهم ضحايا لميراث من الإحباط، من أهم معالمه انسحاب الدولة من التعليم والثقافة والصحة على مدى عقود لمصلحة رجال أعمال ومستثمرين وجهات تمويل أجنبية، ولو نظرنا إلى ردود الفعل المبالغ فيها تجاه موقف الدولة في قضية الجزيرتين فستتجسد أمامنا تلك الثغرات الكبيرة، والمضنية في ثوب المجتمع المصري، وفي العقل المصري، فالسرعة المذهلة في إصدار الأحكام وتكوين آراء عشوائية، بعيدا عن أهل الاختصاص ولا يحكمها المنطق عن القضية، والتلويح بأن الموقف من الجزر لا يعنيهم بقدر ما يعنيهم الخروج ضد سلطة الحكم، لأنها لم تقم بما يجب في ملفات أخرى هو من سبيل العبث، حيث فوضى التفكير وإصدار الأحكام يتساوى فيها أشخاص على قدر كبير من التعليم والثقافة مع محدودي التعليم والثقافة. هناك من المقبوض عليهم في أحداث يوم الإثنين الماضي "ضحايا" وليسوا "جناة"، فهم ضحايا نخب سياسية حولت العمل السياسي إلى بيزنس، وصفقات وأسهمت يوما في دفع جماعة الإخوان لحكم مصر… وهم ضحايا إعلام يطرق فوق رءوسهم ليل نهار، ويكدر عليهم حياتهم بقصص وهمية أو متوهمة عن بيع الأوطان ومؤامرات ضد مصالح الشعب، وهو إعلام يجرم في كل دقيقة في حق الجمهور، ولا يقيم وزنا للموضوعية أو الحقائق. وهم ضحايا لأن تعليمهم لم يقدم لهم ما يكفي من أجل تدبر القضايا العامة بشكل عقلاني. وهم أولا وأخيرا ضحايا انسحاب الدولة… فكيف ننجح في مناقشة قضايانا بينما تدور حلقة التعليم في دائرة عبثية، فالأوضاع في المدارس ومناهج التعليم وكثافة الفصول لا ترقى إلى ما نريده للمستقبل، وتمثل حجر عثرة كبيرًا. فكيف نقول للشباب لاتخرج للتظاهر وهناك مناهج تدرس له حرب أكتوبر 1973 دون أن تقول له من كنا نحارب! وهناك أمثلة عديدة على كوارث المناهج التي تنتج عقلا مهزوزا لا يراعي قيمة الأعياد الوطنية ويريد أن يحيلها إلى أيام فوضى دون تقدير لمن قدموا تضحياتهم دفاعا عن أرض ووطن في تلك الأيام العطرة. تناسى البعض من هول ما حدث قيمة يوم 25 يناير في التاريخ المصري الحديث ووقفة أبطال الشرطة دفاعا عن مواقعهم في مدينة الإسماعيلية في مواجهة المحتل ودفاعا عن الكرامة الوطنية. ورغم اعترافنا أن تجاوزات الشرطة ما كان يجب التسامح بشأنها قبل 25 يناير عام 2011 فإن جهازا كاملا دفع ثمن الصورة السلبية التي شملت كل من يسهر على حماية وأمن وأمان الوطن. بالمثل، جاءت 25 أبريل محملة ببوادر غير مريحة عن توجه لإفساد مناسبة استرداد كامل الأرض المصرية تحت دعوى تفريط السلطة في أرض مصرية وهو ربط خبيث يريد أن يسىء إلى المؤسسة العسكرية، التي تقدم كل يوم شهداء دفاعا عن حرية الوطن وسلامة أراضيه، ضد العدوان والإرهاب، والتي تربت على بذل دمائها في سبيل أن يحيا أبناء الوطن كراما وأحرارا من أجل أن يتحقق لحفنة من المراهقين والمتآمرين غرضهم في فقدان الناس لثقتهم في رئيسه وحكومته وجيشه، وهو استغلال رخيص ومتدنٍّ وما كان يجب التسامح بشأنه لأنه يريد أن يمحو آثار الأعياد الوطنية ويحيلها إلى ذكريات سيئة ومؤلمة في منهج بات معروفا وحاضرا ويعيه عامة الناس اليوم تماما ويتعاملون معه بالتجاهل أو السخرية. وللتاريخ والحق فإن هؤلاء الشباب ليسوا هم من بدأ استغلال الأعياد الوطنية بهذه الصورة، فنظاما حكم السادات ثم مبارك مع الإخوان هما من دشنا هذه الظاهرة… من ينسى أن هناك يوماً من قدموا لأطفالنا كتابا، مترجما عن دار نشر أمريكية، يروج أن حرب أكتوبر هي حرب شنها المصريون على إسرائيل وكان المسئول عن تلك الواقعة المؤسفة وزير سابق في عهد مبارك-الإخوان. ومن دار نشر إخوانية صدرت كتب تشوه ثورة 23 يوليو 1952. فهؤلاء الشباب المتهمون بالتشويش على الاحتفالات الوطنية لم يأتوا بجديد، ولو أردنا أن نوجه الاتهام، فعلينا أن نوجه الاتهام إلى من ابتدع هذا المنهج المشار إليه وتحديد المتهمين الحقيقيين في تلك الحالة التي تتجاوز في حق الوطنية المصرية حتى ولو لم يقصد شباب صغار أن يسددوا ضربات إلى حماة الوطن في أعيادنا الوطنية. من باب الظلم أن يتحمل شباب مؤمن بوطنه المسئولية وحده عن أفعال خرقاء، فلا كل شباب مصر هم هؤلاء ولا الدولة والرئيس يريدون أن يضعوا الشعب كله في قالب واحد من مؤيدين فقط، فمن يرددون تلك التفاهات في الإعلام عن شباب مصر لا يدركون خطورة ما يفعلون. وأثق في أن الرئيس نفسه يقدر حماس الشباب ويجله ويريد حوارا بناء بين كل فئات المجتمع ولا يحتكر رأيا، وقد سبق له أن نبه مرارا وتكرارا إلى خطورة ضرب الروح المعنوية للجنود على جبهات المواجهة مع الإرهاب في كلمته في يوليو من العام الماضي عندما تحدث عن نشر أخبار الشهداء وتأثير الأمر على الروح المعنوية للقوات المسلحة بخلاف ما كان يحدث في الماضي… يومها، كان الرئيس يتحدث عن مسئولية الإعلام أمام المجتمع وتجاه من يحاربون من أجل أن نحيا.. لكن كلمات الرئيس لا تجدي نفعا مع البعض ممن يركز على القراءة المبتسرة لكلماته وتفسيرها بما يتوافق مع أهوائهم وينشرون تلك التفسيرات بشكل مريب على أوسع نطاق ممكن. يدعونا ما سبق… إلى ضرورة أن نفتح نقاشا حيا حول الموضوع بشكل أشمل وأوقع وبصراحة تامة للاعتراف بمسئولية الدولة. فبرنامج الرئيس لتأهيل الشباب لا يكفي وحده، لكن الرؤية الواضحة والشاملة وبرنامج عمل حقيقي كفيل بوضع التعليم والثقافة المصرية على الطريق الصحيح هو الحل الأمثل لمواجهة الاختراق الضار… وفتح حوار صريح مع الشباب المحتج على سياسات بعينها هو أقصر طريق إلى الاستقرار ووقف الفجوة بين أجيال مختلفة في تفكيرها وتوجهاتها. أليس هؤلاء أولى من غيرهم (ممن ارتكبوا أعمال قتل وتخريب وإرهاب) بالحوار وإجراء مراجعات معهم والاستماع إليهم! ولكيلا نتورط في فرض مستقبل لن نعيشه.. ولعل تنظيم وزير الشباب خالد عبد العزيز مساء أمس الأول لقاء بين وزير الخارجية سامح شكري وبين شباب الأحزاب السياسية حول قضية الجزيرتين خطوة على الطريق…. مرة أخرى على الشيوخ وعلى الجاهل والفاسد من الإعلام المزيف أن يفسحوا الطريق للمستقبل ولا يعيقوا التقدم إليه.. فتلك ليست صناعة المستقبل، بل هي تصنيع للكراهية! ربما يكون من بين صفوف الشباب من ارتكب أعمال تخريب أو تحريض أو أعمالا مجرمة قانونا، ومع هؤلاء علينا أن نترك القانون وقضاء مصر العادل يتعامل معهم… كما ليس لأشخاص ينتسبون زورا لمهنة الإعلام أن يضخوا مزيدا من كراهية لن يدفع ثمنها إلا المستقبل، فلو سادت تلك الحالة سيكون المستقبل بعيدا ولن يمكننا أن نبني على ما في أيدينا اليوم لأن الخصومة مع الشباب تعني الخصومة مع المستقبل بكل وضوح وهذا ما لا يريده رئيس البلاد ويدعو الجميع إلى الابتعاد عنه…. لكن تريده شبكات مصالح خاصة تمتلك فضائيات ومواقع إلكترونية. وفي الوقت نفسه، مهمة السلطة هنا أن توقف هؤلاء المتنطعين عند حدودهم وأن توقف مزايداتهم الرخيصة التي تثير نوبات سخرية من عامة الناس وهي ليست مثار إعجاب بالمناسبة من أي عاقل يخشى على المستقبل. وأيضا فإن إجراء مراجعة شاملة للتعليم والثقافة من أجل نشر الوعي الوطني مسألة لا يمكن تأجيلها بعد أن أصبحت أعيادنا الوطنية هدفا للعابثين سواء من بعض الشباب ومن رجال يحومون حول السلطة أو يريدون النيل منها. ——————- ليس علينا الانتظار حتى يحيل هؤلاء المفسدون المواقف الوطنية إلى مزايدات رخيصة وأعيادنا إلى أيام غضب وأيام كراهية وأيام إنتقام… ربما قد تطول إذا انتظرنا الاحتفال بالمولد النبوي الشريف!! نقلا عن جريدة الأهرام