هشام عبد الصبور شاهين يكتب: الرؤية من القمة .. ! د. هشام عبد الصبور شاهين قد يتبادر إلى ذهنك أن تكون هذه الرؤية بها من التعالي ما تمقته، أو من الترفع ما لا تستسيغه، أو من التكبر ما لا تقبل أن ينظر أحد بهذه الطريقة؛ من علٍ إلى مصر، وقد أعتبر النظر إلى شخصي بهذه الطريقة فيه من إساءة الأدب ما فيه، أو فيه تقليل من شأني، حيث إنه نظرٌ إلي من عل، وأستدرك لأذكر لك عزيزي أن الرؤية من القمة التي أقصدها هي رؤية الأشياء من أعلى بصورة أشمل وأعم وأكمل وأعدل، إذا ما قورنت بالرؤية والمرء على نفس مستوى المكان. وأضرب لك مثلا قد تكون عاينته بنفسك، إن ذهبت إلى دير سانت كاترين الأثري في وسط جنوبسيناء عند قاعدة جبل موسى، وصعدت إلى قمة الجبل، ثم اتخذت السلالم الحجرية طريقا للهبوط من القمة، فمرآى الدير من علٍٍ يختلف تماما عن رؤيته وأنت بداخله، فمن فوق ترى حدود الدير وأسواره وتفاصيل مبانيه؛ الكنيسة والمسجد والمباني الملحقة، والجبال التي تحيط به، والطرق والمدقات المؤدية إليه، وأشجار البلّوط والزيتون المزروعة داخله وخارجه، وما تراه من فوق لا يمكن أن تراه بهذا الشمول وأنت داخل الدير. وهذا النوع من الرؤية لم أعهدها – ككثيرين غيري – من الساسة والمتحدثين في الإعلام عبر عشرة الأشهر الماضية، وبخاصة ممن أعلنوا عن نيتهم الترشح للرئاسة، ومنهم من يستبعد الناس انتخابه أو وصوله إلى المنصب الأعلى في مصر لأنه ليس متحدثا لبقا أو منطلقا، وآخر لأنه ليست لديه (الكاريزما) اللازمة لمن يتولى هذا المنصب الرفيع، أو ثالث لأنه لم يعش في مصر أو يعاني مشكلاتها كالمصريين، ورابع لأنه لا يتمتع بالخبرة السياسية، وخامس لأنه متزمت، أو أو.. ولي هنا وقفة.. قل لي يا عزيزي القارئ.. هي مصر عملت إيه (بكاريزمة) جمال عبد الناصر ؟ أو بلباقة وانطلاق حديث أنور السادات ؟ وهل كان مبارك وأسرته يعيشون حياة ومشكلات المصريين ؟ لقد قاد عبد الناصر (بكاريزمته) مصر إلى الهزيمة التي لا زلنا نعاني آثارها حتى اليوم، وأوقعنا السادات بلباقته وطلاقة حديثه في شَرَك اتفاق السلام والتسليم لإسرائيل، ولا زال الشعب يرفض التطبيع حتى اليوم، والثلاثون عاما التي قضاها مبارك حاكما لنا ترتب عليها استكمال مسيرة الانهزام والتسليم وضياع الدور، وانكسار المصريين في الداخل والخارج على السواء.. قد تقول الآن: هو انت مش عاجبك حد ؟ وأجيبك سيدي: الشعب المصري بمختلف طبقاته وشرائحه يريد رئيسا يختاره هو، ويرفعه إلى سدة الرئاسة عبر صناديق الانتخاب، فإن أصلح أعانه، وإن أساء خلعه دون ثورة أو انقلاب، نريد رئيسا لا يشعر أو يُشعرنا أنه أهمّ من أي منا، ويعرف جيدا أن الشعب الذي انتخبه قادر على خلعه، نريد رئيسا ليست له حصانة من المساءلة، لا يشعر بمعاناة سكان المقابر والعشوائيات ويمصمص شفتيه فحسْب؛ ولكنه يفرض مع حكومته حلولا لمشاكلهم، نريد رئيسا يركب الأوتوبيس والميكروباص والتوك توك؛ لا أن يكون طول موكبه خمسين سيارة مصفّحة، نريده أن يعاني مثلنا زحام الشوارع وسخافة المرور وملل الطريق، لا أن تُخلى الشوارع والميادين، وتعطل مصالح الناس وقت عبور موكبه، نريد رئيسا بشرا يأكل نفس طعامنا ويشرب مياهنا ويسكن في شقة مثلنا ويذهب إلى الطبيب مثلنا، لا أن يعزل نفسه في قصره عنا وعن مشاكلنا، نريد رئيسا ليست له حصانة الأنبياء، وليس مدّعيا للألوهية.. وأهم شرط من شروط قبول الرئيس القادم أن يكون له رؤية مستقبلية شاملة، يرى مصر رؤية عادلة متزنة، واقعية عالمة مُلِمّة، رؤية من فوق ترى أطراف المشكلات جميعها؛ داخلها وخارجها ومتداخلها، وبسيطها ومعقّدها، حادّها ومزمنها، خطيرها وتافهها، محليها ودوليها، ويرى ما تتأثر به البلاد ويهدد أمنها واستقرارها، ثم يفترض ويدرس مع أفراد حكومته الحلول المقترحة لمشكلات البلاد. عندما فُتح باب الترشح للرئاسة؛ استبشر المصريون خيرا، فقد تحققت وعد المجلس العسكري وأجريت انتخابات مجلسي الشعب والشورى، وها هو الوعد الآخر بانتخاب الرئيس يُفتح الباب لإنجازه، ولكن.. أصبح الترشح نكتة تناقلتها وكالات الأنباء، وأدخلت مصر موسوعة جينيس بالرقم القياسي في عدد المتقدمين للترشح، (حتى كتابة هذا المقال وصل عددهم 950 شخصا )، أتدري عزيزي لماذا فُتح باب الترشح على مصراعيه ؟ ليتقدم عدد كبير، وتكثر الأسماء، فتختلط الأمور على العامّة، وتختفي في زحام المتقدمين الشخصياتُ التي يمكن أن يكون لأحدها هذه الميزة؛ الرؤية من فوق. إن هذا الذي نطلبه ليس صعبا ولا مستحيلا، فبلادنا مترعة بالمتميزين في جميع مراحل العمر، بنوا بذكائهم ومجهوداتهم ورؤاهم البلاد من حولنا، وأبدوا في بلادنا وفي بلاد المهجر قمة التميّز وقمة النجاح وصولا إلى نوبل..! إسلمي يا مصر.