كنا فين لما الحكومة ألغت وزارة التأمينات والشئون الاجتماعية، واستبدلتها بوزارة التضامن الاجتماعي، واستولت على 400 مليار جنيه هي حق الشعب الغلبان في تأميناته المستقطعة من مرتباته لعشرات السنين، وضمتها لوزارة المالية ؟ كنا فين لما أغمضت أجهزة الدولة الرقابية عيونها عن هذه الجريمة، وكأن الأمر لا يدخل في اختصاصها ولا يعنيها ؟ كنا فين لما وزير الثقافة ابتدع (سبوبة) إخراج آثار توت عنخ آمون وغيرها، من أماكنها في المتحف المصري، إلى أوروبا وأمريكا فلا تعود منها أبدا ؟ كنا فين لما مجلس الشعب (المنتخب) جدد كل عام تفويضه للرئيس في شأن عقد صفقات شراء السلاح، والحصول على عمولاتها، ومنحه حق إصدار قرارات لها قوة القانون في هذا الشأن ؟ كنا فين حين قرر الرئيس ورئيس وزرائه ووزراء قطاع الأعمال والاستثمار والمالية والصناعة والتجارة بيع أملاكنا ومصانعنا وأراضينا في برامج الخصخصة التي ملأت خزائنهم، ورسخت فقر بلادنا وفقرنا ؟ كنا فين حين كانت أمواج البحر المتوسط تبتلع زهرة شبابنا الهاربين على مراكب الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا ؟ كنا فين حين بيعت أراضي ساحل البحر الأحمر بملاليم لحيتان القرى السياحية، من العين السخنة حتى حماطة ؟ كنا فين حين أدخل وزير الزراعة المخضرم المبيدات والأسمدة المسرطنة، لتصيب أعدادا متزايدة من المصريين بالسرطان ؟ كنا فين حين تدهورت أحوال التعليم الأساسي والفني والجامعي، وهربت المواهب إلى حيث لا تعود إلينا أبدا ؟ كنا فين حين سُمح لعبارة السلام؛ المخصصة لنقل الحيوانات؛ بنقل الرائحين والعائدين من مواني السعودية، وكنا فين عندما غرقت ؟ وكنا فين عندما هرب صاحبها بملايينه دون حساب ؟ كنا فين حين انتشرت الرشوة والواسطة والمحسوبية في كل مناحي حياتنا لتنسف مصداقيتها نسفا؛ ومارسنا تلك الرذائل كل ساعات أعمارنا ؟ كنا فين حين أنشأت الحكومة وزارة للهجرة، محفزة كل موهبة وكل صاحب فكر وكل مخترع لأن يهاجر ويترك مصر مفروشة للغربان ؟ كنا فين حين زُورت كل الانتخابات وكل الاستفتاءات، على كل المستويات ؟ كنا فين حين أمسك القوادون بزمام أمورنا، وتركناهم يعيثون فسادا في أرضنا مع علمنا بأنهم قوادون ؟ كنا فين حين اغتال القائمون على التعليم اللغة العربية، وأحلوا مكانها اللغات الأجنبية ؟ كنا فين منذ كان الجنيه الذهبي يباع بجنيه مصري، فأصبح الآن بألفين وثلاثمائة جنيه مصري ؟ كنا فين حين سُحبت (السجادة) من تحت أرجل العامل والطبيب والمهندس والمدرس المصريين في أسواق العمل في البلاد العربية ؟ كنا فين حين حين تغلغلت سلطة أمن الدولة في كل صغيرة وكبيرة في حياتنا ؟ كنا فين حين اختفت الأرصفة، وضاقت الشوارع، وتنامت جبال الزبالة، وانتشر البلطجية واللصوص والمنحرفون في مجتمعنا ؟ كنا فين حين علت العمارات مخالفة بمئات الآلاف، وقضت على الأرض الزراعية حول القاهرة وكل مدن مصر، وفي كل نجع وقرية ومركز ؟ كنا فين حين تلوث ماء النيل، واستولى الكبار على أرض طرْحه، واتفقت علينا دول حوضه؟ كنا فين حين تدهورت أحوال كل شئ، واختفى من حياتنا كل خير، وأصبح المصري في العالم نموذجا للغُلب والقهر والتخلف والمرض، بعد أن كان رمزا للنجابة والذكاء والإخلاص والتمدن ؟ قد أقضي ليالي وأياما أعدد لك عزيزي مئات من هذا التساؤل المُلِح؛ إحنا كنا فين، وأذَكِّرك الآن بمشهد الأستاذ أنيس، الشخصية المحورية في رائعة نجيب محفوظ (ثرثرة فوق النيل )، في الفيلم الذي أخرجه حسين كمال عام 1971؛ وأنيس في القصة الرائعة؛ المؤلمة في ذات الوقت، يُمثل الشعب المصري المُغَيَّب آنذاك بكل شرائحه، وهو يقضي حياته مع الجوزة مسطولا، فلم يدر أين كانوا حين منيت البلاد بالهزيمة، وبلغت جريمة الشعب في حق مصر مداها حين صدمت سيارة المساطيل الفلاحة (مصر)التي كانت تسير على الطريق فقتلتها، وكانت الفلاحة قبلها تتوسل بالدجل إلى تمثال فرعوني في ميت رهينة، أي تتوسل إلى تاريخها أن يمنحها ولدا ! زار أنيس الجبهة بعد هزيمة 67، فلما رأى الدمار الذي حاق بالبلد؛ أخذ يتساءل في ذهوله بينه وبين نفسه: هو ده حصل إمتى ؟ حصل إزاي ؟ فين الناس ؟ ولما سألته الصحفية سمارة: إنت كنت فين يا أستاذ أنيس ؟ أجابها بهذا التساؤل: إحنا اللي كنا فين ! وختم أنيس المأساة بأن سار في الشارع صائحاً: الفلاحة ماتت ولازم نسلم نفسنا .. يا ناس فوقوا.. لازم نفوق ! يا أستاذ أنيس .. أدركنا بعد أربعين عاما من صيحتك أن الفلاحة ماتت فعلا، وأننا نحن الذين قتلناها بصمتنا وإهمالنا وتسليمنا وأنانيتنا وقبولنا أن نكون مجرد أرقاما قومية مغيَّبة، واعترفنا بخطئنا؛ بل بخطيئاتنا في حقها، وثار شبابنا وأبناؤنا ونحن من ورائهم نؤازر خطاهم ونساندهم لتعود مصر مرة أخرى؛ كما قال حافظ إبراهيم؛ تاج العلاء في مفرق الشرق.. رحم الله نجيب محفوظ.. واسلمي يا مصر