رحلة طويلة مريرة تلك التي قطعها محمد فوزي.. هذا الشاب البسيط المكافح الذي نشأ في قرية من قري طنطا في ظروف أقرب إلي الفقر منها إلي الغني، لم يكن يعلم هذا الطفل البسيط الذي ترك بيت أهله إلي القاهرة دون موافقة والده بعد أن ندهته نداهة الفن التي لا ترحم مبدعا إلي هناك، إنه سيصبح بعد سنوات معدودة ملء السمع والبصر، وسيصبح هذا الفنان البسيط الذي لعب دورا ثانويا في أحد أفلام يوسف وهبي واحدا من أعمدة الطرب والتلحين والتمثيل والإنتاج في مصر والعالم العربي. ولو قرأ «محمد فوزي» كتاب المستقبل، أو رأي مآله في بلورة سحرية، ورأي هذا الصعود السريع وهذا الهبوط المدوي.. لو شاهد نفسه وهو يتسلق سلم النجاح تمثيلا وتلحينا وغناء وإنتاجا ثم يأتي قرار واحد اسمه «قرار التأميم» بجرة قلم ليقضي علي حلمه ومشروعه العملاق «مصر فون» الذي كان أول شركة إنتاج اسطوانات محلية قضت علي احتكار الأجانب، وتتحول الشركة التي بناها بكده وكفاحه إلي شركة مؤممة ويتحول مالكها ومؤسسها محمد فوزي إلي مدير لها براتب شهري لا يتجاوز المائة جنيه.. لو تفتحت له حجب الرؤية ورأي نفسه بعد صدمة تأميم شركته وهو يصارع مرضا عضالا غامضا ليس له علاج ولا تشخيص، يحار فيه الأطباء ويعجز عنه العلماء، ليصبح خامس خمسة أصيبوا بهذا المرض في العالم وقتها، حتي وصل وزنه إلي ستة وثلاثين كيلو جرامًا، لدرجة أن تطلق المراجع العلمية الأجنبية علي هذا المرض اسما علميا «مرض محمد فوزي» قبل أن يتم اكتشاف المرض بعد ذلك وهو سرطان العظام.. لو أخبرته عرافة الإبداع أنه سينعم في الرخاء والسعة والشهرة والمجد ثم يعود إلي ما كان عليه معدما مفلسا، لتصبح حياته جنة بين جحيمين، ونعيما بين عذابين، ويترك الدنيا وليس وراءه شيء منها، لو علم محمد فوزي بكل هذا قبل أن يترك بيته البسيط المتواضع لربما آثر أن يبقي في بيته موظفا بسيطا أو مغنيا شعبيا يجوب الموالد أو قارئا في المآتم، ولكنني أعتقد أنه لو قُدِّر له أن يري كل هذا لاختار نفس طريقه ولآثر أن يكتوي بنار الحياة علي أن يكتوي بنار كبت الموهبة المتفجرة والإبداع المتدفق حبيس الصدر والعقل والروح. والكتاب في مجمله يحاول فيه المؤلف مصطفي بيومي أن يكمل مشروعه بالكتابة عن الرواد وأن يرد الاعتبار إلي فنان لم يأخذ حقه من التكريم ولا الدراسة، ولم يتم الاحتفاء بموسيقاه كما ينبغي ولا النظر في ألحانه بعين الاعتبار، وإثباتها كنوع من التجديد في الألحان المصرية، فمَن قبله أتحف الأذن المصرية والعربية بهذه الألحان خفيفة الدم والروح؟ ومَن قبله أهدي المكتبة الغنائية العربية عددا من أغاني الأطفال التي ما زالت هي النشيد الرسمي لعالم الأطفال والكبار معا مثل «ماما زمانها جية» و«ذهب الليل»؟ مَن قبله أبدع في هذه الصور الغنائية والأوبريتات الاستعراضية التي ملأت أفلامه التي بلغت ستة وثلاثين فيلما؟ من منا يستطيع أن ينسي هذه الابتسامة الحلوة والروح المرحة المعجونة في شقاوة المصريين و«عفرتة» ولاد البلد و«صياعة» المحبين علي شرفات المحبوبات، لتتكاتف كل هذه العوامل ليخرج لنا في الآخر «شحات الغرام»؟ من منا يتجاهل هذه الروح الطيبة الودودة التي تتناثر عبر اللحن، حتي ولو كان هذا اللحن نشيدا رسميا للجزائر بلد المليون شهيد، والذي يُفترض به أن يكون مثالا للحزم والشدة والصرامة والرسمية؟ وإذا كان الكتاب في مجمله بسيطا وافيا، فإن الفصل الأخير الذي يحمل عنوان «دروس» هو مسك الختام لهذا الكتاب، ففي هذا الفصل يحلل الكاتب حياة محمد فوزي ليستخلص منها بعض الدروس المستفادة، منها أن الظروف المحيطة بنشأة الإنسان ليست معوقا أمام طموحه مادام مبدعا متطلعا، فهذا محمد فوزي رغم طفولته الفقيرة وانفصاله عن عائلته وذهابه وحيدا للقاهرة بيت الفن والطموح قد أصبح عَلَما يشار له بالبنان بفضل الله ثم بفضل تصميمه وجلده علي طريق التميز، ومن الدروس المستفادة أيضا الاختلاف عن السائد، حيث إن عبقرية محمد فوزي جعلته يبتكر منحي جديدا بسيطا مرحا في الغناء والتلحين لم يكن موجودا ليتفرد بأسلوبه أمام هذا الجيل الزاخر بالعمالقة، كما أن أقوي الدروس المستفادة هو أن الإنسان لابد أن يعي أنه مهما صعد وارتقي في سلالم المجد فإنه إلي زوال ويبقي ما قدم.. رحم الله محمد فوزي.