على احتمالين لا ثالث لهما راهن حمدين صباحى فى خوضه معركة الرئاسة الأخيرة. إما أن يصبح ساكن قصر الاتحادية الجديد، وسادس رئيس للجمهورية، وإما أن يدشن نفسه كزعيم أوحد للمعارضة وسط قوى وتيارات حزبية وسياسية تتبارى على التكلس والتقزم حتى أوشكت على التلاشى. أى احتمال آخر للانزواء أو التوارى فى الكواليس لم يأت فى ذهنه على الإطلاق. مؤسس التيار الشعبى، كان أمينا مع مؤيديه، وقبلهم مع نفسه، منذ البداية. لم يقل إن فوزه بالموقع الأرفع فى مصر مضمون فى جيبه. كان واقعيا. أدرك أن شعبية منافسه المشير عبد الفتاح السيسى جارفة. الميل المجتمعى الكبير، وربما الرسمى أيضا فى بعض مواقع السلطة التنفيذية للأخير، حول إدراك صباحى حقائق الأمور إلى يقين بصعوبة المعركة. لكنه كان مؤمنا أيضا أن صناعة الديمقراطية الحقة، وترسيخ مبادئ التعددية والتنافسية، لن يتحقق إلا بتبنى فضيلة المحاولة والتجريب، وخوض غمار الاستحقاقات الكبرى، فضلا عن ممارسة المبارزات السياسية والانتخابية الجادة.
حمدين لا يعبأ بالاتهامات منذ اللحظة الأولى لخوضه المعركة الرئاسية ضد السيسى، لم يعبأ صباحى كثيرا باتهامات البعض له، خصوصا أولئك المحسوبين على الإخوان تنظيميا أو على أرضية المصالح والبزنس، أو ممن يشعرون بحساسية مفرطة تجاه كل من هو قادم من المؤسسة العسكرية، بأنه يشارك فى مسرحية هزلية ليمر من خلالها المشير إلى قصر الاتحادية.صباحى اعتبر تلك الاتهامات إهانة لإرادة الشعب وليست. قال كلمة معلمه وزعيمه الروحى، الراحل جمال عبد الناصر: «الشعب هو المعلم».. اعتمد على صلته بالشارع والعمل العام والبرلمان الممتدة لنحو أربعة عقود، فضلا عن القاعدة التصويتية الضخمة التى كان قد حازها فى الانتخابات الرئاسية قبل الماضية (2012)، فضلا عن نشاط التيار الشعبى، الذى كان قد جنى ثمارا معقولة إلى جانب جبهة الإنقاذ فى الاستفتاء على الدستور الإخوانى الفاشى. صباحى كان وحده، وعلى عكس أسماء بثقل محمد البرادعى، مع ضرورة منافسة الجماعة، وهز شعبيتها المطاطة، شعبية الزيت والسكر والترهيب والترغيب بالنار والجنة. وتحقق له ما أراد، وعرف محمد مرسى ومحمد بديع وخيرت الشاطر ورفاقهم، ساعتها، أن اختطاف مصر وأخونتها مهمة مستحيلة.
بنفس الإقدام والميل الجارف للمواجهة، وتحكيم إرادة الناس، خاض صباحى المنافسة فى مواجهة المشير. اعتبر أن البلاد فى حاجة إلى النهوض عبر استحقاق ديمقراطى قوى. فكر وأمعن النظر، كأنه قال لنفسه إنه لو أصبح رئيسا ستتاح له فرصة تحقيق أحلام العدالة الاجتماعية وضمان حريات المواطنين وتطبيق شعارات الثورة على أرض الواقع.. ولو لم يفز سيحظى بظهير شعبى جديد، أو على الأقل سيتعرف على حجم مؤيديه الحقيقى، ثم والأهم ترسيخ أنه رائد المعارضة فى بلد تعود طيلة عقود ماضية، وقبل 25 يناير و30 يونيو، على السكوت.
وحتى لا يزايد عليه أحد، وتجنبا لمنصات الاغتيالات المعنوية الشهيرة فى بلاد النيل، أعلنها صراحة، وكررها إلى حد الملل فى بعض الأحيان.. لو لم ينتخبنى المصريون رئيسا.. سأعود إلى الشارع.. إلى المعارضة.. إلى قيادة تحالف شعبى سياسى قوى.. يقول لأى رئيس.. أنت لا تملك شيكا على بياض لحكم هذا البلد.
ثمن قيادة المعارضة وعلى ما يبدو فإن رهان قيادة معارضة جادة، تتبنى برنامجا قابلا للتنفيذ للإصلاح السياسى والاقتصادى والمجتمعى، كان الأقرب إلى ذهن صباحى، من فرضية جلوسه على كرسى الحكم فى مصر. وعليه كان معنيا باستقطاب أدوات معارضته المستقبلية من خلال خوضه معركة الانتخابات.. استهدف شباب الثورة.. وكل الحالمين بمصر حرة بلا قمع أو استبداد.. ركز على جذب الكتل المحبطة من سقطات السلطة المؤقتة ولجوئها إلى الحلول البوليسية بعد عزل مرسى. هذا يفسر علو نبرته، واعتمادها على خطاب شعاراتى فى بعض الأوقات طيلة فترة الدعاية للانتخابات الرئاسية. ببراجماتية سياسية واضحة، حاول أيضا وضع قدم له فى أوساط تيارات الإسلام السياسى. أفصح عن قناعته بضرورة الإفراج عن كل أعضاء وكوادر الإخوان وحلفائهم من السلفيين، ممن لم يتورطوا فى عنف أو إرهاب، بصراحة وبلا خوف.. وعد بأنه سيأمر بالإفراج عن جميع المعتقلين السياسيين، بغض النظر عن هويتهم أو معتقداتهم، وأنه سيشكل لجنة قضائية مستقلة للتحقيق فى فض اعتصامى رابعة والنهضة ومحاسبة كل متورط فى جريمة فيه، سواء من الإخوان أو الأمن، بمجرد أن يصبح رئيسا.. تحمل اتهامات بمداعبة أصوات الإخوان، بل والتنسيق معهم، بثبات.
أصوات في مهب الريح صباحى كان يريد تضخيم قاعدته الشعبية. كان يريد جمع أكبر قدر ممكن من الذحيرة التصويتية فى جعبته، استعدادا لأى منافسات مستقبلية. غير أن الرياح لا تأتى دوما بما تشتهى السفن. حملته الانتخابية وأداؤها المترهل غير الخلاق، ضرباه فى مقتل. الخمسة ملايين صوت تقريبا التى حصل عليها فى انتخابات 2012، ووفق المؤشرات الأولية لفرز نتائج انتخابات 2014، باتت مهددة بشدة، وعلى نحو مفجع، يحتم أن يعيد الرجل ترتيب مساعديه وتعديل تركيبتهم، إذا ما أراد مباشرة دور مؤثر فى ما بعد. لقد خذلوه إلى حد كبير، بل وأثروا على أدائه هو نفسه، وأصابوه بنوع من الارتباك والتضارب فى المواقف.
فى الأخير، وبينما أصبح صباحى بعيدا كل البعد عن قصر الاتحادية، فإنه وبنفس نهج البداية فى تحمل المسؤولية، وخوض معركة شبه مستحيلة، قرر مواصلة المعركة الانتخابية حتى النهاية، رغم القرار المرتبك والمفاجئ الذى كان قد صدر عن اللجنة العليا للانتخابات، بمد التصويت ليوم ثالث (الأربعاء)، وما ترتب عليه من رغبة من جانب مندوبيه وأعضاء حملته فى الانسحاب، جراء ما سموه تجاوزات أمنية وإجرائية ضدهم. صاحب «النسر» رفض الانصياع للغضب، وقرر الاستمرار رافعا شعار «مصلحة مصر أكبر من مصلحة حمدين».