علي خطاب الرئيس في عيد العمال ملاحظات شكلية وأخري موضوعية.. فقد كان ظهور الرئيس يوم الخميس هو أول ظهور علني وعام بعد أن مَنَّ الله عليه بالشفاء.. وكانت أبسط العبارات التي يستهل بها خطابه وسط عبارات التهنئة له بسلامة العودة، أن يُعبر عن شكره لله سبحانه وتعالي أن مَنَّ عليه بالشفاء بعد العملية الجراحية التي أجراها في الخارج.. وليته بدأ باسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله الذي أنعم عليَّ بالشفاء حتي جئت إليكم اليوم.. لكان ذلك استهلالاً طيباً لخطاب الرئيس إلي شعب مصر الذي يؤمن بأن الشفاء بأمر الله. وتساءل الرئيس تساؤلات عديدة موجهة لمن يطالبون بالتغيير في نظام الحكم ودستوره بعد تسع وعشرين سنة من رئاسته للدولة.. ولا يخفي المطالبون بإصلاح نظام الحكم مطلبهم الأساسي المتمثل في تعديل نظام رئاسة الدولة، وفقاً لنظم الحكم الديمقراطي التي يتولي فيها الرئيس بانتخابات حرة نزيهة ولمدة محددة، ويحل محله آخر بإرادة الشعب في انتخابات رئاسية نزيهة، كما يحدث في الكثير من الدول الديمقراطية، وليس كما يحدث عندنا في مصر، حيث يبقي الرئيس في رئاسة الجمهورية مدي الحياة، ولا يخرج من قصر الرئاسة إلا ميتاً مثل «عبدالناصر» أو مقتولاً مثل «السادات». لقد كان «السادات» واقعياً عند وضع دستور 1971 المنقول من دستور الولاياتالمتحدةالأمريكية فيما يتعلق بمنصب الرئيس؛ إذ لا يبقي الرئيس في الولاياتالمتحدة أكثر من مدتين، اكتفي بهما «السادات» في المادة 77 من دستوره الدائم.. ولكن رحمه الله كان يقول إنه آخر فراعنة مصر.. والفرعون لا يتخلي عن الكرسي بإرادته.. ولذلك عَدَّل «السادات» المادة 77 من الدستور في مايو 1980 ليبقي في الرئاسة مدي الحياة.. وكان لله سبحانه وتعالي شأن آخر ألا يُبقيه علي قيد الحياة بعد 6 أكتوبر 1981.. وكان ما كان؛ إذ خلفه الرئيس «مبارك» في رئاسة الدولة، وقام بتعديل عدد من المواد في عامي 2005 و2007، ولم يقترب من المادة 77 التي تبيح له البقاء في رئاسة الدولة مدي الحياة.. وقد عبر عن ذلك صراحة بقوله إنه باقٍ في الحكم طالما فيه قلب ينبض.. وهذا أمر خطير جداً مع مرور تسعة وعشرين عاماً علي رئاسته وبلوغه سن الثالثة والثمانين، وما ورد عليه من وهن المرض والشيخوخة.. وليس ذلك في مصلحة البلاد. نعم.. نريد تغيير نظام الحكم من قمته بتعديل المادة 77 من الدستور لتعود إلي سابق عهدها؛ إذ يبقي الرئيس في منصبه مدتين فقط مثل الرئيس الأمريكي الذي تولي الرئاسة بانتخابات حرة نزيهة بعد أن قضي فيها الرئيس «بوش» مدتين فقط لا يصح له الترشيح بعدهما.. هذه هي الديمقراطية التي تعيد الأمر للشعب لاستبدال رئيسه حتي يستمر التجديد في الحياة السياسية التي تصبح مثل المياه الراكدة إذا ما استمر الرئيس مدي الحياة كما هو الحال في مصر. ويتباهي الرئيس بالتعديلات الدستورية التي أدخلها عامي 2005 و2007، فقد عَدَّل المادة 76 ولم يُعدل المادة التالية لها مباشرة التي تحدد بقاء الرئيس في منصب الرئاسة بمدتين فقط مجموعهما اثنتا عشرة سنة، كما كان ينص الدستور عام 1971 قبل تعديله عام 1980، أي أن رفضه تعديل تلك المادة كان لمصلحة شخصية له للبقاء في الرئاسة مدي الحياة.. بينما عَدَّل المادة 76 تعديلاً لا مثيل له في أي دستور في العالم؛ إذ وصل عدد كلماتها إلي 590 كلمة شددت من شروط الترشيح لمنصب رئاسة الجمهورية، بحيث لا يستطيع الحصول عليها إلا الرئيس «مبارك» شخصياً أو ابنه «جمال مبارك» رئيس لجنة السياسات بالحزب الحاكم الذي يدير دفة الحكم فعلاً من خلال تلك اللجنة.. مما جعل الدكتور «محمد البرادعي» يطالب بتعديل تلك المادة أولاً قبل ترشحه لرئاسة الجمهورية، وجعل شخصية وطنية بارزة مثل أمين الجامعة العربية «عمرو موسي» ينأي بنفسه عن الترشيح، وفقاً لطلبات الكثير من الوطنيين، إذ اعتبر أن منصب الرئاسة مغلق أمام أمثاله بحكم المادة 77 من الدستور. ويعتبر الرئيس «مبارك» أن تلك التعديلات التي أدخلها علي الدستور عامي 2005 و2007 تهدف للإصلاحات السياسية بترسيخ دعائم الديمقراطية ودعم دور البرلمان والأحزاب وتعزيز استقلال القضاء والبعد بالدين عن السياسة.. وهي كلها عبارات لم نجد لها ترجمة في مجال الحياة العملية لمصر.. فلم يتم دعم الديمقراطية لأنه لا توجد أصلاً ديمقراطية في تطبيق قانون الطوارئ منذ عام 1981 وحتي اليوم.. فهو قانون عسكري يصف رئيس الجمهورية بالحاكم العسكري العام ويخوله محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية وإطلاق أيدي السلطات البوليسية لاعتقال الناس دون إذن مسبق من النيابة العامة.. ثم إلقاء الآلاف في السجون والمعتقلات بقرارات بوليسية ودون حكم قضائي.. وليت الرئيس يعلن كم عدد المعتقلين الذين سُلبت حرياتهم بقانون الطوارئ.. وكم عدد المحالين للمحاكم العسكرية التي تصدر أحكاماً متسرعة دون مراعاة حقوق الدفاع أمام القضاء العادي.. بل وكم عدد أحكام الإعدام التي أصدرتها تلك المحاكم أو محاكم أمن الدولة العليا طوارئ.. وستشير الإحصاءات إلي أن مصر لم تشاهد في كل تاريخها العدد الهائل من المعتقلين بقانون الطوارئ وعدد من صدرت عليهم أحكام الإعدام العسكرية المتسرعة الظالمة.. الممعنة في الظلم. أين هي الديمقراطية في ظل رئاسة «مبارك» مع مصادرة الحريات الشخصية وكل الحريات الأخري تحت سيف قانون الطوارئ، وظلم وزارة الداخلية، وامتلاء السجون والمعتقلات، وممارسة التعذيب فيها وفي أقسام الشرطة ومباحث أمن الدولة، كما شهدت بذلك أحكام محاكم الجنايات وتقارير جميع منظمات حقوق الإنسان المصرية والعربية والأجنبية. أين هو دعم برلمان وانتخابات تجري بالتزوير الناضح الفج الثابت بأحكام محكمة النقض التي لا يقيم لها مجلس الشعب أي وزن بمقولة: أنه سيد قراره، مما جعل المجلس أضحوكة المجالس البرلمانية بدخول المزورين وتجار المخدرات ولصوص القروض من البنوك والمتاجرين بالدم الفاسد والهاربين من وجه العدالة إلي الخارج بعد ارتكابهم أبشع الجرائم إلخ. أما تعزيز استقلال القضاء.. فهو وهم كبير.. فلم نشهد انهياراً للسلطة القضائية مثلما شهدنا في ظل حكم الرئيس «مبارك» الذي عين مفتشاً قضائياً رئيساً للمحكمة الدستورية العليا، وهو لم يجلس علي منصتها في أي يوم، ثم عين نائباً عاماً لرئاسة تلك المحكمة الهامة متجاهلاً نواب رئيس تلك المحكمة، رغم أن ذلك النائب العام لم يجلس هو الآخر علي منصة القضاء الدستوري.. ثم عيّن مستشاراً من الاستئناف لرئاسة المحكمة الدستورية العليا، وهو أحدث من نواب رئيس تلك المحكمة، وبالرغم من رجاء مستشاري تلك المحكمة للرئيس بأن يختار أحد نواب رئيس المحكمة الدستورية العليا لتولي رئاستها، كالعرف الدستوري في جميع الأنظمة الدستورية باختيار رئيس المحكمة الدستورية علي شاكلة من يريده لرئاسة لجنة انتخابات رئيس الجمهورية القادم.. أي الرئيس «مبارك» شخصياً أو نجله «جمال مبارك» مما يقلل من قيمة المحكمة الدستورية واستقلالها وبعدها عن شبهة تزوير الانتخابات الرئاسية.. وليست مهزلة الاعتداء علي القضاة في ناديهم ببعيدة عن الأذهان؛ فقد وجهت إليهم الإهانات والاعتداءات البوليسية لدرجة سحل أحد القضاة علي أسفلت الطريق وإلقائه في عربة البوليس.. أما إغفال الحكومة ذاتها عن تنفيذ أحكام القضاء فهو أسلوب شائع لدي جميع سلطات حكم الرئيس. وقد طالب دعاة التغيير والإصلاح بتعديل المواد 76 و77 و88 من الدستور ونسوا المادة 179 التي أدخلها نظام الرئيس في عام 2007 لسن قانون جديد للإرهاب يحل محل قانون الطوارئ.. وهذه المادة الخطيرة تلغي الحريات والحقوق الأساسية للمواطنين الواردة في المواد 41 و44 و45، أي استمرار مصادرة الحريات العامة وحرية المساكن والاتصالات والمراسلات.. أي أنها استبدلت قانون الإرهاب بقانون الطوارئ الذي لا يقل عنه سوءاً لاستمرار قبضة النظام البوليسي الذي اتسم به نظام حكم الرئيس «مبارك».. فلا يتعجب الرئيس إذن من طلب تغيير ما أدخله من تعديلات علي الدستور تصادر الديمقراطية والحرية والعدالة. وتحدث الرئيس عن الإصلاحات الاقتصادية والاستثمارات وفرص العمل وعدالة الأجور ومساعدة الفقراء والعدل الاجتماعي.. وللأسف الشديد فإن كل الإحصائيات والدراسات والواقع الذي نعيشه ويعيشه الملايين من شعب مصر ينطق بخلاف ذلك.. فالبطالة ضاربة أطنابها في جميع جنبات الشعب؛ فقد ارتفع معدل البطالة إلي مستويات غير مسبوقة بين كل الفئات، والأجور متدنية لا تكفي حاجة الشاب للمعيشة والزواج والسكن، وهي مظاهر يلمسها الشعب كله؛ لأنه يعيشها ويعانيها.. كما لم يلمس تعديلاً للأفضل في حالة الفقراء، بل ازداد الفقراء فقراً بسبب ارتفاع أسعار جميع مواد الغذاء وضعف قيمة الجنيه المصري.. فما كنا نشتريه بقروش أصبحنا نشتريه بجنيهات يعجز عن توفيرها مئات الآلاف من الأسر التي تواجه اليوم أسعار اللحوم حتي ستين جنيهاً.. وحتي العدس والفول.. أكلات الشعب المطحون.. لم تعد في متناول يده بسهولة.. فمن ذا الذي يقول إننا نعيش عصر العدل الاجتماعي؟! وقد زاد عدد الأثرياء وزادوا تخمة، وتضاعفت أعداد المليونيرات والمليارديرات في مقابل انهيار دخول ملايين المواطنين.. ولا مكان للحديث عن أمن الناس مع ازدياد حدة الجرائم لخلو الشارع المصري من رجال الأمن المشغولين بأمن الحكام وتخزين مئات الآلاف من الأمن المركزي لردع معارضي النظام وإسكات أصوات المطالبين بأي إصلاح لنظام الحكم. لن أطيل في تحليل خطاب الرئيس «مبارك».. ولكن لي ملاحظة أخيرة.. فقد قال الرئيس في احتفال عيد العمال.. «أقول لعمال مصر.. سوف تجدونني دائماً إلي جانبكم».. دون أن يقول إن شاء الله.. ويقول ربنا سبحانه وتعالي «ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله» صدق الله العظيم.