للأستاذ إحسان عبد القدوس رحمه الله قصة جميلة عنوانها «رائحة الورد وأنوف لا تشم» تحكي عن جحيم المطلقات في بلادنا وكيف أن زهرات جميلات يضيع عبيرهن في الفضاء لغياب الأنوف الحساسة التي أودع الله من أجلها الضوع في نساء جميلات فضليات مال بختهن دون ذنب جنوه. لكن بعيداً عن أنوف إحسان عبد القدوس التي لا تشم قد تنشأ أحياناً المشكلة نتيجة وجود أنوف حساسة تشم وتنفعل وتستجيب..كيف؟. سأحكي لكم: ذهبت إلي سنغافورة في رحلة عمل منذ سنوات مع مجموعة من الزملاء، وكان من الشائع وقتها أن يتقاسم الغرفة بالفندق أكثر من شخص لتخفيض النفقات وللحصول علي أقصي فائدة مادية من الرحلة. ميلي إلي الوحدة وخوفي من أن أزعج أحداً أو يزعجني أحد كان يجعلني أفضل النزول في غرفة بمفردي في هذه السفريات.. وسبب آخر كان يدفعني للسكن بمفردي هو أنه بعد العودة كانت تجربة السكن معاً غالباً ما تضع حداً للصداقة أو للزمالة الودودة بين الناس بسبب الخلافات التي كانت تنشأ علي أتفه الأسباب. لم تكن الرغبة في التوفير تدفع الجماعة لاقتسام الغرف فقط لكن كان من المأثور أن يصطحب البعض معه ما تيسر من الزاد المتمثل في المأكولات الجافة والمعلبة، وذلك من أجل صيانة بدل السفر والعودة بقرشين للعيال. لم أكن أنكر عليهم ما يفعلونه لكني لم أكن أفعل مثلهم وذلك بسبب حالة السفه المبكر التي ميزتني ولعدم وجود مسئوليات في حياتي ولأن السفر كان بالنسبة لي فرصة للتمتع بالحياة وأطايبها وعلي رأسها الطعام اللذيذ المختلف في كل بلد. بعد مضي يومين لاحظت أن أحد الزملاء انفصل عن زميل آخر وترك له الغرفة وذهب ليقيم وحده.. وفي الحقيقة لقد أتعب موظفي الفندق حتي عثروا له علي غرفة خالية أثناء انعقاد المؤتمر الذي كنا نحضره. وفي أحد الأيام صادفت داخل المصعد أثناء ذهابي إلي غرفتي الزميل الذي هجره رفيقه ليسكن وحده فقام بدعوتي لشرب الشاي عنده بالغرفة. اعتذرت في رفق لكنه مضي خلفي بعد خروجي من المصعد وقال في محاولة لتشجيعي: إن الشاي الذي عندي لا يشبه شاي الفنادق الخالي من الطعم والنكهة، وإنما معي باكو من شاي التموين الذي يعدل المزاج!. ضحكت من اعتزازه بشاي التموين المخلوط بالنشارة الذي اصطحبه إلي سنغافورة ومعه باقي مستلزمات المزاج من سكر وبن وموقد صغير!..قال ليزيد من تشجيعي: وعندي أيضاً جبنة رومي وبسطرمة وزيتون وعيش محمص وكل ما هو ضروري للحياة لمدة أسبوعين دون أن أفكر في تناول الأكل الآسيوي الذي لا تروق لي رائحته ولا أدري من أي شيء يصنعونه. قلت له: للناس في الطعام أمزجة، وحسناً فعلت أنك اصطحبت تموينك معك. كان الفندق شديد الضخامة لدرجة السير لمسافة طويلة في ردهاته حتي يصل الواحد إلي حجرته..خطر لي أثناء التمشية أن أسأله عن سبب انشقاق رفيقه في الغرفة وإيثاره السكن وحده بعد يومين فقط من الوصول فأشاح بيده كدليل علي الامتعاض ولم يرد.بعد لحظات بادرني بدعوة أكثر كرماً من دعوة الشاي وأسر إليَّ بأن لديه في الغرفة مفاجأة لن أصدقها. سألته في فضول: ماذا لديك يا تري؟.قال: عندي عِرق من اللحم البتلو مطهو ومتبل أتناول منه علي مهل كل يوم شريحتين، ويسرني أن تكون ضيفي علي الغذاء!. سألته في دهشة: أحضرت معك عرق بتلو بحاله؟ أجاب في نشوة: ستري بنفسك. وصلنا إلي غرفته فقام بفتح الباب ومضي إلي الداخل وأنا خلفه، ثم جلست علي أحد المقاعد. أحسست أن ثمة رائحة غير مستحبة تتسلل إلي أنفي فدخلت إلي الشرفة لأستنشق هواء نقياً وأنا أغطي نصف وجهي بيدي. جاء ورائي وقال: وبعدين..هل ستفعل مثل فلان الذي ترك الغرفة متذرعاً بوجود روائح كريهة لا توجد سوي في خياله؟. قلت مرتبكاً:أبداً.. أنا فقط أشعر بدوار وأريد أن أنصرف لأنام. قال: علي الأقل تشرب الشاي معي. انهمك في عمل الشاي ثم عاد إليَّ كمن تذكر شيء وأمسكني من يدي قائلاً: تعال لأريك شيئاً..هناك عرق البتلو الذي قلت لك عنه موجود في الثلاجة وأريدك أن تشمه لتتأكد من سلامته لأن الأفندي المخبول الذي كان يسكن معي زعم أنه فسد وهو داخل الحقيبة أثناء الرحلة الطويلة. حاولت أن أتملص منه لكنه ظل ممسكاً يدي بعناد ثم فتح الثلاجة فدهمتني رائحة عفنة أطارت صوابي وجعلتني أترنح في مكاني من الغثيان..بيد أنه لم يرحمني لكن أخرج قطعة اللحم التي كانت في حجم عامود الشاورمة وقربها من أنفي وهو يلح قائلاً: شم.. شم. محاولاتي للتملص أدت إلي نتيجة كارثية إذ اصطدم عرق اللحم المتعفن بوجهي ومسح أنفي وفمي فأحسست أنني أوشك علي الموت، ولم أدر إلا وشلال من القيء يندفع من معدتي في دفقات متتابعة فيغرق سريره وأرضيته. بعد لحظات تمالكت نفسي واجتاحتني رغبة في الهروب فاندفعت نحو الباب وأنا أسبه وألعن جنونه وقذارته ففوجئت به يسألني في لوم بريء: وماذا أفعل أنا في هذا القيء الذي لوثت لي به المكان؟ فما أدري إلا وأنا أضحك في هستيريا قائلاً: بما أن نفسك حلوة إلي حد أكل الجيفة فلا أظنك تمانع أن تعمله سندوتشات للعشاء!.