الحديث عن الماضي جميل ومفيد.. فالماضي هو التاريخ.. والحضارة.. والدروس.. والصبر.. هذا لو أننا لم نكتفِ بالحديث عنه فحسب، وإنما سعينا للاستفادة من دروسه أيضا.. والشعوب التي تنشغل طوال الوقت بالحديث عن الماضي، تنسى دوماً أن الماضي مجرد أساس، ننهض فوقه؛ لنصنع المستقبل.. ولكننا طوال الوقت شديدي الانشغال بالماضي، نتحدث عنه، ونتشبث به، ونتباهى بمنجزاته وإنجازاته، دون أن نتخذ منه ركيزة للقفز إلى المستقبل.. نتحدث عن حضارة سبعة آلاف عام.. وعن فتوحات وغزوات انتهت وبادت.. وعن الدولة الإسلامية.. وعن أننا "كنا" خير أمة أخرجت للناس.. وهذا يمتعنا، ويرضينا، ويبثّ في نفوسنا الفخر والحماس، و... ينتهي الأمر عند هذا!! تماماً كالشخص العاطل، الذي لم ينجز شيئاً في حياته، ولكنه يجلس طوال الوقت على المقهى، يتحدّث عن إنجازات والده، ومنجزات جده، وعظمة أسلافه، وثراء أسلاف أسلافه، حتى يمضي به العمر، ويسأم الكل حديثه.. ولكنه لا ينجز شيئاً لغده.. وهكذا يبقى طوال الوقت على المقهى ينفق فيما لا يفيد، ويضيع عمره فيما لا يصنع له ما يمكن أن يفخر به أحفاده طوال الوقت!! ومنذ الثورة، ونحن منشغلون جداً بالماضي.. بالانتقام.. والغل.. والتشفي.. وبالغضب.. وعندما يأتي ذكر الغضب، في أي تعبير علمي، تضاف إليه في الغالب كلمة "الأعمى".. فالغضب بالفعل أعمى.. أعمى؛ لأنه وسيلة من وسائل الشيطان، يسيطر بها على العقول والقلوب، ويعمي بوساطتها الأبصار، فيتحوّل المرء إلى ما يشبه سيارة قوية، تسير بلا فائدة، منطلقة بأقصى سرعتها.. ومطفأة الأنوار أيضا.. والغضب هو لعبة الشيطان الثانية، بعد الشهوة مباشرة.. فالشهوة تسيطر على الحواس، وتدفع الإنسان إلى ارتكاب المعاصي، وفعل المحرّمات، والجور على العباد.. والانتقام والغلّ شهوة.. شهوة من شهوات الشيطان، الذي يدرك مدى تأثيرها وقوتها، وكيف أنه بوساطتها، يستطيع أن يزيح الإنسان الصالح عن طريق الصواب، ويدفعه دفعاً إلى طريق الجحيم، وهو يزيّن له أن هذا هو طريق الحق.. ولهذا أطلقوا على الانتقام في التعبيرات الأدبية اسم "شهوة الانتقام".. ولهذا جاء وكان "جهاد النفس".. فجهاد النفس هو الجهاد الأعظم والأكبر.. جهاد عظيم؛ لأنه جهاد ضد الشهوة.. وضد الشيطان.. والجهاد بالسلاح ليس عسيراً؛ فكل من يحمل سلاحاً يمكنه أن يقوم به.. ولكن جهاد النفس أمر عظيم.. عظيم.. عظيم إلى درجة عظيمة.. أعظم حتى مما تتصوّرون.. ألف ألف مرة.. فجهاد النفس يحتاج إلى نفس مؤمنة.. قوية.. نقية.. طاهرة.. ودعونا نعود إلى قدوتنا الحسنة، في هذا الشأن.. إلى الرسول صلى الله عليه وسلم.. لقد عانى الأمرّين من كفار مكة.. اضطهدوه.. وحاصروه.. وقاتلوه.. وجمعوا من كل قبيلة رجلا ليقتلوه، فأغشاهم الله سبحانه وتعالى، فإذ هم لا يبصرون، وإذ به -صلوات الله عليه- يخرج سالماً من بين أيديهم.. وعلى الرغم من هذا، فهم لم يتركوه.. حاربوه.. وحاربوا قومه.. وعذّبوا من تحت أيديهم منهم.. ونكّلوا بهم.. وقتلوهم.. وأخرجوهم من ديارهم.. ولكن مرّ الزمن، وقوي المسلمون، ومنّ الله المعز المذل عليهم بفتح مكة.. وصار كفارها تحت يديه، مهزومين، مدحورين، ضعفاء، أذلاء.. فهل انتقم منهم؟! هل انحاز لشهوة الانتقام، تحت مسمى القصاص العادل، الذي كان عادلا بالفعل، ولا يؤاخذ به أحد في تلك اللحظة؟! بل لم يفعل.. لقد ضرب لنا مثلاً، لم نقتدِ به، وكان لنا أسوة حسنة، لم نتبعها.. وقف أمام من عذّبوه، وقاتلوه، وحاصروه، وسعوا لقتله، وعذّبوا قومه، وقتلوا منهم من قتلوا، وأخرجوهم من ديارهم، ليقول لهم: "اذهبوا، فأنتم الطلقاء".. ولم يصدّق الكفار ما حدث.. وانبهروا.. وأدركوا أنه من المستحيل أن يفعل هذا، إلا صاحب دعوة حق، ونقاء نفس، وعظمة فكر.. ودخلوا في دين الله أفواجاً.. ليس هم وحدهم، ولكن كل من بلغه الأمر أيضا.. وارتفعت راية الإسلام بجهاد النفس، وليس بشهوة الانتقام.. فالرسول -صلى الله عليه وسلم- ما أن أدرك أنه قد صار صاحب المقدرة، عفا، وطرح الماضي بكل مساوئه خلف ظهره، وتطلّع فقط إلى المستقبل.. إلى الغد.. هذه هي الأسوة الحسنة.. فهل اتبعناها؟! هل جاهدنا النفس الأمّارة بالسوء، وكان لنا في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسوة حسنة؟! هل حاولنا -مجرد محاولة- طرح الماضي خلف ظهورنا، والتطلّع إلى الغد؟! الرسول الكريم -صلوات الله وسلامه عليه- لم يشأ أن يضيع في شهوة الانتقام من الماضي؛ لأنه نظر بعيني الوحي إلى الغد.. إلى بناء الدولة القوية.. الواعية.. المتماسكة.. وبجهاد النفس ربح الإسلام، وارتفعت رايته، وتجاوز مرحلة كبيرة، وبدأ بناء الغد.. ولقد أضعنا عامين في مطاردة الماضي.. وحان وقت بناء المستقبل.. والتطلع إلى الغد.. والسؤال هو: أين الغد، في خططنا ونفوسنا؟! وهل نواصل انفلات النفس، سعياً وراء شهوة الانتقام، أم نجاهد النفس، ونبدأ في بناء الغد؟! احسبوها أنتم.