دون مقدمات.. اسمح لي أن أسألك بشكل مباشر: "أنت تعيش في بلد عمره أكثر من 5000 سنة، تاريخه حافل ومزدحم بالأحداث والحقَب والعصور ذات الوزن الثقيل، فهل ترى -بصراحة- أن منهج التاريخ الذي درسته أو تدرسه خلال المرحلة المدرسية يتناسب مع تلك الحقيقة؟!". ما سبب هذا السؤال؟ سببه أن أية دولة تحافظ على تاريخها تتعامل معه باعتباره جزءا من قضايا أمنها القومي، انظر للأمريكيين واعتدادهم الشديد برموزهم الوطنية التاريخية، تابع الجدل بين الأتراك والأرمن حول مذابح الجيوش العثمانية في أرمينيا، تأمّل حرص فرنسا على إبراز رموزها التاريخية المرتبطة بثورتها.. هؤلاء القوم لا يعانون فراغ الوقت والعقل؛ لو كنت تحسب اهتمامهم بتلك الأمور من قبيل ذلك، هؤلاء قوم اهتموا بتدريس تاريخهم لأبنائهم كما يجب، فتمكّنوا من صنع حاضرهم بنجاح، والتخطيط لمستقبلهم ببراعة. فماذا عنا؟ كيف درسنا التاريخ؟ وكيف يدرسه أبناؤنا؟ منهج الوزارة! تأمل معي المُسَمّى "منهج التاريخ".. الاسم نفسه له ثِقَل يجثم على النفس! وهو المنطبق عليه بشدة قول "أول القصيدة كفر"، فهو ليس "منهج البحث في التاريخ"، ولا "منهج تحليل التاريخ"، بل هو "منهج التاريخ"، هكذا دون تفاهم! فلا هو مجرد طرح لقضايا وترك حرية البحث فيها للطالب، ولا به مساحة للمتعلم ليختار تبني وجهة النظر هذه أو تلك من مختلف آراء المؤرخين، بل هو منهج مكتوب جرى العُرف على تسميته "منهج الوزارة" (وهي تسمية تقشعرّ لها الأبدان، عادة ما ينطقها المدرس بتفخيم، كأنه يتحدث عن القرآن أو الكتاب المقدّس)، وعلى الطالب حفظ محتويات كتابه "من الجلدة للجلدة"، ولا يهم كثيرًا اقتناعه بما فيه من عدمه، المهم أن يُذاكره جيدًا ليقوم ب"التسميع" في الدرس، وأن تكون كرّاسته منظمة تحسبًا لأن "يطبّ" موجّه المادة على المدرسة، وأن يقوم ب"دلق" المعلومات في ورقة الإجابة يوم الامتحان! (أعتذر عن هذه التعبيرات العامية لكنها المستخدمة بالفعل.. الأمر الذي أرى له دلالاته الباعثة للتأمل)؛ لأسباب كهذه ترتبط مادة التاريخ بالحفظ -والمواد الأدبية بشكل عام- حتى أن من يلتحق بالقسم الأدبي في المرحلة الثانوية يصبح مباشرة مدانًا بأنه يريد أن "يحفظ ولا يفهم"، وهكذا يصبح التاريخ موصومًا -بشكل غير مباشر- بأنه من تخصصات ضعاف العقول!. لا عجب إذن أن يقول لي مؤرخ مصري كبير -الأول في مجاله- أنه كان يحصل على أضعف الدرجات في مادة التاريخ خلال دراسته المدرسية! والحقيقة أن هذه الطريقة "التلقينية" لتدريس التاريخ تزرع في ذهن الطالب رسالة سلبية تقول: "لا تُتعب ذهنك بمحاولة الفهم، فقط ذاكر ما بالكتاب، واتّبع التعليمات، ودعْ عنك عناء التفكير؛ لتحصل على الدرجة الجيدة، وكفاك بهذا إنجازًا".. وبالطبع فإن هذه الرسالة لو وصلت لهدفها بدقة فإنها -مع الوقت- ستجعل الطالب شخصًا أبعد ما يكون عن القدرة على التحليل والتفكير في أي شيء بعد ذلك، وسيتحول إلى شخص سلبي يجيد "اتّباع التعليمات". المادة النظرية من الصفات الظالمة المفروضة فرضًا على مادة التاريخ أنها "مادة نظرية"، كيف بحق الله يكون الأمر الواقع الذي ترتبت عليه وقائع تالية، ونتجت عنه تغيّرات في الجغرافيا السياسية والسكانية، وتطورات في الثقافة والاقتصاد مجرد "شيء نظري" يقتصر تدريسه على "النظر" فيه؟ ماذا عن التطبيق العملي؟ أجل؛ فالتاريخ قابل للتعامل معه بشكل عملي من خلال البحث والتحليل، وتَعَلُّم التمييز بين السليم والخطأ من الروايات والوقائع.. لماذا لا تتحول الدروس "النصوصية" إلى مجرد رؤوس لموضوعات تُطرَح على الطلاب، ويتم تقسيمهم لفِرَق بحث تتنافس في تقصي الوقائع والأحداث من المراجع، مع تدريبهم أولاً على القيام بذلك بشكل سليم، مع ترك مساحة معقولة لهم لتنوُّع وجهات النظر؟ لكن للأسف بدلاً من ذلك يتحول التاريخ إلى "سَنة كذا حدث كذا" و"فلان إنجازاته كذا وكذا" و"النتائج المترتبة على هذا الحدث، وأسباب وقوعه كذا".. نصوص تُحفَظ "كما أنزِلَت" تَبتَذِل التاريخ وتنزل به من مستوى "العلم الذي تستفيد به الأمة لتتعلم من أخطائها، وتستفيد من تجاربها الإيجابية" إلى مستوى "المادة النظرية البحتة" التي يُصبح أقصى ما يُطمَح إليه منها أن تكون "مُسلّية" للطالب! لو كان التاريخ بالفعل مادة نظرية، فمن أين أتى رجال مثل الأستاذ "هيكل" والدكتور جلال أمين، والراحل العظيم الدكتور عبد الوهاب المسيري؟ هؤلاء لم يكتبوا التاريخ من مكاتبهم المكيّفة على مقاعدهم الوثيرة، بل تعاملوا معه باعتباره مجالاً عمليًا يتطلب البحث والتنقل هنا وهناك؛ بحثًا عن الحقائق ليفيدوا بها أمتهم.. ولو كان التاريخ علمًا نظريًا لا يتجاوز الكتب، فكيف لعب رجل مثل "هيكل" دورًا فعالاً في عصر جمال عبد الناصر وبدايات عصر السادات، وكيف كان مؤرخ مثل "برنارد لويس" قريبًا من الإدارة الأمريكية في وقت قريب؟ المفترض بالمناهج الدراسية أن تتماشى مع الواقع، أو أن تخدم هدفًا قوميًا، ولكن الواضح أن فرض الطابع النظري على التاريخ المُدَرَّس للطلبة لا هو بالمتماشي مع الواقع، ولا هو بالخادم للهدف القومي -إن كان ثمة شيء بهذا الاسم حاليًا- فأي هدف يخدم هذا المسخ لمادة التاريخ، تلك الكذبة التي كُذِبَت علينا وصدقناها للأسف؟ تاريخنا = نحن! "إذا كان النسيان مصير كل شيء، لماذا نبني، ولماذا بنى أسلافنا؟ لماذا نكتب، ولماذا كتبوا هم؟ أجل، في هذه الحالة فما جدوى غرس الأشجار, ولِم الإنجاب؟ ما فائدة النضال من أجل قضية، والحديث عن التقدم، والتطور، والبشرية، والمستقبل؟ فالإفراط في التعلّق باللحظة المعاشة قد يحاصرنا بمحيط من الموت، وعلى العكس، فإعادة إحياء الزمان الغابر يوسّع آفاق الحياة". (أمين معلوف - رواية "بدايات") تاريخنا -ببساطة- هو "نحن"؛ هو مَن كنا؟ ومَن نحن؟ وماذا سنكون؟ ليست دراسته ترفًا أو تسلية، أو مجرد أداء واجب؛ فطريقة تعامُلنا مع تاريخنا هي التي تحدّد إلى أين نحن متّجهون، وكيف سنتعامل مع الغد المجهول، بل كيف نتوقع كُنْه هذا الغد، فنُزيل عنه صفة الجهالة، ولو بشكل جزئي يساعدنا على الاستعداد لما هو قادم، لكن ما يجري هو أن التاريخ يتحول من مادة يُفتَرَض أن تكون مؤثرة إيجابيًا في عقلية الطالب، ومنشطة لمهاراته في البحث والمتابعة والتحليل لما يجري من حوله في الدنيا، إلى مجرد مادة دراسية أخرى كل الغرض من دراستها هو النجاح فيها؛ من باب التخلّص منها ليس إلا! والفضل -ولا فضل- لطريقة عرضه وتدريسه، والسؤال هو: لماذا؟ إن التفسير لهذا التعامل غير المسئول مع أحد أهم مكوناتنا الإنسانية يتراوح بين أمرين كلاهما خطير مؤلم: إما أنه من باب الإهمال وإهدار الطاقات الإيجابية الذي أصبح بمثابة "نمط حياة" في مصر، أو أنه تنفيذ لسياسة ما يعلم الله وحده من تخدم وإلى ماذا ستوصلنا.. هل يراني البعض أبالغ أو أهوّل في المسألة؟ إن مجرد افتراض المبالغة في الدعوة لمعاملة أفضل لتاريخ أقدم وأعرق شعب في العالم هو مأساة تؤكّد كلامي لا تنفيه! هذا عن الجانب السلبي في "شَكل" مادة التاريخ.. فماذا عن سلبيات "المضمون"؟