ما هو التعصُّب بالضبط؟! التعصُّب باختصار، هو أن ترى نفسك، أو ما تنتمي إليه على حق طوال الوقت، دون أدنى احتمال للخطأ.. وأن ترى من يخالفك على خطأ طوال الوقت، دون أدنى احتمال للصواب.. التعصُّب هو أن تنصر ما تنتمي إليه، ظالماً كان أو مظلوماً.. وليس بأن تمنعه عن الظلم.. بل أن تجاريه في ظلمه.. وتبرّره له.. وتحارب لفرض ظلمه على الكافة.. التعصّب أن تتعامل في عنف، مع كل ما يخالفك، ومن يخالفك، دون أن تترك ولو فرجة بسيطة لعقلك، لدراسة الأمر وتحليله.. التعصّب هو العناد.. والجهل.. والعنف.. والخوف.. أنت تشجع فريقاً ما، وترى أنه أفضل فريق في الكون كله، وتتعصّب له، حتى أنك تفقد عقلك، وتترك العنان لمشاعرك، دون حِكمة أو روية.. فحينما ينتصر فريقك، تشتعل حماساً.. وعندما يخسر، تشتعل غضباً.. وفي الحالتين، يغيب عقلك، وتقوم بأفعال من المؤكّد أن تؤذي الآخرين وتؤلمهم.. وكل من آذيته، سيصبح له عندك حق.. وفي يوم الحساب، سترد الحقوق إلى أصحابها.. وستخسر إلى أبد الآبدين، الكثير والكثير والكثير، فقط لأنك متعصّب لفريقك.. بلا عقل.. التعصّب وغياب العقل هنا جعلاك تُقدِم على أمور انفعالية حمقاء، دون أن تحسب حسابها.. أمور أربحتك، أو قد لا تربحك لحظات.. وخسرت بسببها حسنات من حساب الآخرة الأبدي.. وهذا هو التعصّب.. خسارة دائمة.. ويستحيل أن يقودك إلى الربح.. وكل هذا بسبب تعصّبك لفريق رياضي.. فماذا عن تعصّبك لعقيدة مثلا؟! لو راجعنا كل حرف، أتت به أي عقيدة، وكل لحظة من تاريخها، وتاريخ الدعوة إليها، وحتى انتشارها، نجد أنها لم تدعُ، في حرف واحد منها، ولا في لمحة واحدة من تاريخها، إلى التعصّب، أياً كان نوعه.. ولكن حتى نراجع العقيدة.. وحتى ندرس تاريخها.. وحتى نفهمها.. لا ينبغى أن نتعصّب.. ولكننا نتعصّب، فلا نفهم أو نفقه، أو نتعلّم شيئاً.. هذا لأن التعصّب يصنع على عقولنا وحول رءوسنا ستاراً أسود داكناً حالك السواد، يحجب عنا العقل... والمعرفة.. وهدوء النفس.. والحكمة.. وهذا يعيدنا إلى السؤال الرئيسي.. لماذا كل هذا؟! لماذا نتعصّب؟! لماذا؟! لماذا؟! لماذا؟! وألف لماذا؟! في الواقع، أن هذا السؤال لم يطرح هنا فقط؛ لأن التعصّب موجود في كل مكان.. وكل زمان.. وكل مجتمع.. وكل عقيدة.. لقد طرح المئات من العلماء هذا السؤال.. طرحوه.. ودرسوه.. وحللوه.. واستوعبوه.. ووضعوا نظرياتهم بشأنه.. ولقد خلصت دراساتهم وتحليلاتهم إلى نقطة واحدة.. أن الدافع الأوّل للتعصّب ليس هو القهر.. ولا الفقر.. ولا الجهل.. إنه الخوف.. نعم.. الخوف!! الإنسان يخاف من الحياة، ومن تقلّباتها ونكباتها ومفاجآتها.. يخاف من ضعفه.. ومن وحدته.. ومن أعدائه.. وحتى من الطبيعة.. لذا فالإنسان يسعى، ومنذ الأزل، إلى الشعور بالقوة.. ولقد وجد الإنسان بغريزته، منذ كان يحيا في الكهوف، أن القوة تكمن في الجماعة والاتحاد، ولهذا لم يكن يحيا وحده، وإنما كان يحيا في قبائل، وعشائر، وقرى، وبلدان، ودول، وأمم.. وكلما ازداد شعوره بعدد من يشاركونه ويتحدون معه، زاد شعوره بالقوة والأمان.. والعكس بالعكس.. ولأن القوة تكمن في الجماعة، فالإنسان، ومنذ بدء الخليقة أيضاً، يدافع عن الجماعة.. لأن الجماعة هي انتماؤه.. ووجوده.. وقوته.. ولأن الجماعة بالنسبة إليه هي الوجود، فهو يتعصّب لها.. ويدافع عنها.. ويثور من أجلها.. ويرتكب أكبر الحماقات والتجاوزات؛ فقط ليحافظ على وجودها؛ لأن وجودها هو وجوده الشخصي.. وأكبر خوف في حياة الإنسان، هو أن يفقد الوجود.. وكلما شعر الإنسان في أعماقه بالضعف، زاد تعصّبه لجماعة ينتمي إليها، أو لعقيدة يعتنقها.. أو حتى لفريق يُشجّعه.. فبدون تلك الجماعة، أياً كانت، سيستعيد شعوره بالضعف.. وهو يخشى هذا.. يخشاه ويخافه، كما يستحيل أن يخاف من شيء آخر.. وكلما واجهت تلك الجماعة ضعفاً، ازداد تعصّبه لها.. وتعنته.. وحماقاته.. وعدوانيته.. وعنفه.. و.. ما زال لحديثنا بقية،،، اقرأ أيضاً: خلينا نحسبها: لماذا كل هذا؟! (1)