تخصيص 100 فدان في جنوب سيناء لإنشاء فرع جديد لجامعة السويس.. تفاصيل    عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير.. أسعار الذهب اليوم الخميس 25 إبريل 2024 بالصاغة    صندوق التنمية الحضرية يعلن بيع 27 محلا تجاريا في مزاد علني    أحمد موسى: مطار العريش أصبح قبلة للعالم وجاهز لاستقبال جميع الوفود    تحظى ب«احترام غير مبرر».. اتهام مباشر لواشنطن بالتغاضي عن انتهاكات إسرائيل    "كاليفورنيا" بعد "هارفارد" .. جامعات نخبة العالم تناهض الإبادة الجماعية في غزة    قيادي في حماس: السنوار ليس معزولا في الأنفاق ويمارس نشاطه ميدانيا    شوبير يعلق على تكريم الأهلي لنجم الزمالك السابق    عاجل.. فرج عامر يتحدث عن صفقات سموحة الصيفية وضم كوكا من الأهلي    عاجل.. تعديل موعد مباراة يد الزمالك وشبيبة أمل الجزائري في بطولة إفريقيا    الليلة.. أدهم سليمان يُحيي حفل جديد بساقية الصاوي    هل يجوز قضاء صلاة الفجر مع الظهر؟.. «الإفتاء» تحسم الجدل    حصول 5 وحدات طب أسرة جديدة على اعتماد «GAHAR» (تفاصيل)    رئيس قسم الطب النفسي بجامعة الأزهر: تخصصنا يحافظ على الشخص في وضعه الطبيعي    رئيس «الطب النفسي» بجامعة الإسكندرية: المريض يضع شروطا قبل بدء العلاج    بعد نوى البلح.. توجهات أمريكية لإنتاج القهوة من بذور الجوافة    منسق مبادرة مقاطعة الأسماك في بورسعيد: الحملة امتدت لمحافظات أخرى بعد نجاحها..فيديو    محافظ شمال سيناء: منظومة الطرق في الشيخ زويد تشهد طفرة حقيقية    توجيهات الرئيس.. محافظ شمال سيناء: أولوية الإقامة في رفح الجديدة لأهالي المدينة    اسكواش - ثلاثي مصري جديد إلى نصف نهائي الجونة الدولية    "منافسات أوروبية".. جدول مباريات اليوم والقنوات الناقلة    كرة السلة، ترتيب مجموعة الأهلي في تصفيات ال bal 4    عماد النحاس يكشف توقعه لمباراة الأهلي ومازيمبي    إصابة 5 سائحين في انقلاب سيارة ملاكي بالطريق الصحراوي بأسوان    تيك توك تتعهد بالطعن في قانون أمريكي يُهدد بحظرها    بعد اختناق أطفال بحمام السباحة.. التحفظ على 4 مسؤولين بنادي الترسانة    "مربوط بحبل في جنش المروحة".. عامل ينهي حياته في منطقة أوسيم    محافظ شمال سيناء: الانتهاء من صرف التعويضات لأهالي الشيخ زويد بنسبة 85%    ريهام عبد الغفور عن والدها الراحل: وعدته أكون موجودة في تكريمه ونفذت    مش بيصرف عليه ورفض يعالجه.. محامي طليقة مطرب مهرجانات شهير يكشف مفاجأة    30 صورة وفيديو من حفل زفاف سلمى ابنة بدرية طلبة بحضور نجوم الفن    التطبيق خلال ساعات.. طريقة تغيير الساعة على نظام التوقيت الصيفي (بعد إلغاء الشتوي)    كيف أعرف من يحسدني؟.. الحاسد له 3 علامات وعليه 5 عقوبات دنيوية    دعاء في جوف الليل: اللهم أخرجنا من الظلمات إلى النور واهدنا سواء السبيل    الاحتلال يعتقل فلسطينيًا من بيت فوريك ويقتحم بيت دجن    القيادة المركزية الأمريكية: تصدينا لصاروخ باليستي مضاد للسفن أطلقه الحوثيون    الهلال الأحمر: تم الحفاظ على الميزانية الخاصة للطائرات التى تقل المساعدات لغزة    الهلال الأحمر: مصر وفرت خدمات عملية إجلاء المصابين الفلسطينيين في وقت قياسي    وزيرة التضامن: المدارس المجتمعية تمثل فرصة ثانية لاستكمال التعليم    ما موعد انتهاء مبادرة سيارات المصريين بالخارج؟.. وزيرة الهجرة تجيب    رئيس تحرير «أكتوبر»: الإعلام أحد الأسلحة الهامة في الحروب    فريد زهران: نسعى لوضع الكتاب المصري في مكانة أفضل بكثير |فيديو    حظك اليوم برج الميزان الخميس 25-4-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    اختيارات النقاد.. بعد سيطرة الكوميديا ما هى الأفلام الأنسب لموسم العيد؟    «زى النهارده».. عيد تحرير سيناء 25 إبريل 1982    ارتفاع الذهب اليوم الخميس.. تعرف على الأسعار بعد الزيادة    إصابة أم وأطفالها الثلاثة في انفجار أسطوانة غاز ب الدقهلية    الزكاة على أموال وثائق التأمين.. الإفتاء توضح أحكامها ومتى تجب    تأجيل بيع محطتي سيمنز .. البنوك الألمانية" أو أزمة الغاز الطبيعي وراء وقف الصفقة ؟    ميدو: لاعبو الزمالك تسببوا في أزمة لمجلس الإدارة.. والجماهير لن ترحمهم    غادة البدوي: تحرير سيناء يمثل نموذجًا حقيقيًا للشجاعة والتضحية والتفاني في سبيل الوطن    من أرض الفيروز.. رسالة وزير العمل بمناسبة ذكرى تحرير سيناء    الصحة تفحص مليون و413 ألف طالب ضمن المبادرة الرئاسية للكشف المبكر عن فيروس سى    مدير تعليم القاهرة: مراعاة مواعيد الامتحانات طبقا للتوقيت الصيفي    صور.. الطرق الصوفية تحتفل برجبية السيد البدوي بطنطا    بالفيديو.. أمين الفتوى: موجات الحر من تنفيس نار جهنم على الدنيا    10 توصيات لأول مؤتمر عن الذكاء الاصطناعي وانتهاك الملكية الفكرية لوزارة العدل    القبض على 5 عصابات سرقة في القاهرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تاريخ العنف، والعنف الجنسي
نشر في صوت البلد يوم 12 - 12 - 2017

قد يبدو مفاجئًا جدًا للقارئ، لا سيما العربي الذي يعيش في ظروف تاريخية عنيفة: كلُّ أنواع العنف البشري، من الحروب العسكرية، وحتى اللطمة الصغيرة على مؤخرة الطفل، مرورًا بالعنف الجنسي، لم تتوقف عن التراجع والانحسار، منذ فجر الحياة الإنسانية على وجه الأرض.
ليس تراجعًا خطيًّا منتظمًا بالطبع: تمرّ فتراتٌ ما يمكن للعنفِ أن يرتفع فيها قليلاً، لكن، على المدى البعيد، كل الخطوط البيانية لِحجم العنف البشري في هبوطٍ مضطردٍ مذهل، إلى ذلك الحد الذي يسمح بالقول بأن الإنسان يعيش اليوم، بشكل عام، أنعمَ حقب تاريخه وأكثرها سلامًا وطمأنينة!
تلك خلاصة كتاب ستيفان بانكير الأخير: “الجانب الملائكي للإنسان: تاريخ العنف وانحساره”، 1050 صفحة.
يبلوِر فيه آلاف الدراسات، لِفرق أبحاث دولية خلال 30 عامًا، حول تاريخ العنف. مشحونةٌ صفحاتُه بعدد رهيب من الرسومات البيانية الدقيقة التي تكشف جميعها سرّ اختياره لعبارة إبراهام لينكولن: “الجانب الملائكي للإنسان”. مثلُ كل كتبه، هو حدثٌ فكريٌّ مهم.
ستيفان بانكير، في الحقيقة، أحد أكبر المفكرين والباحثين المعاصرين: أستاذ “علم النفس الذهني” في جامعة هارفارد: تخصصٌ يضمّ العلومَ المعرفية والذهنية، علوم عصبونات الدماغ، وعلوم النفس الاجتماعية والتطوّرية.
تخصص أبحاثه: “الطبيعة الإنسانية”. أحد كتبه السابقة، بهذا العنوان، مرجعٌ جوهري، وجزءٌ ضروري من الثقافة العامة أو التخصصية اللازمةِ لكل مثقف. يستعرض فيه بنية وهيئة الروح الإنسانية، كما تكشفها ميكروسوبات العلوم الحديثة وأبحاثها المشتركة والمتعددة التخصصات.
هكذا، حسب كتابه الجديد، لم تتوقف عصبية العنف البشري عن الاضمحلال عبر تاريخ الإنسان: فقبل بدئه عصر الزراعة، عاش الإنسانُ، معظم تاريخه، صيادًا قطّافًا يحيا حياةَ الغاب الهمجية، يغزو وينهب ويقتل الآخر، على نحوٍ لا يختلف كثيرًا عن حياة الدواب والضواري. ثم تقلَّص العنف بمختلف أنواعه حوالى عشرة مرات، بعد بدء الحضارة الزراعية.
كذلك حال كل الحقبة بين نهاية القرون الوسطى وبداية القرن العشرين: تقلّص حجم العنف البشري عمومًا حوالي عشرة مرات أيضًا، بعد أن كان عنفُ القرون الوسطى وحروبها الدينية يكتسحُ حياة البشر:
كان الإنسان يقضي حياته، خلال هذه القرون الوسطى، يُنهي حربًا ليبدأ أخرى، همُّه النهب والسيادة والسيطرة والانتقام والاستباق، أو بكل بساطة: “استعراض من يستطيع البولَ أبعد من الآخر”، وكانت إمرأةٌ بين اثنتين تعاني، في تلك القرون، من الاغتصاب الجنسي.
لعب عصرُ العقل والأنوار، ابتداءً من القرن السابع عشر، وبشكل خاص القرن الثامن عشر، دورَ منعطفٍ تاريخي في أواخر قرون تلك الحقبة السابقة للقرن العشرين:
بدأت خلاله سيرورات إلغاء العبودية والاستبداد، ومعارك القتل الثنائية (أتذكّرُ حالياً بألم وفاة بوشكين!)، والتعذيب، وهمجية التعامل مع الحيوانات، وإعدام السحرة، والعقوبات السادية، والإعدام… أي ما يُسمّى غالبًا: الثورة الإنسانية.
ثمّ بدأ منعطفٌ تاريخي جديد عقب الحرب العالمية الثانية (التي، وإن مات خلالها 55 مليون إنسان، لم تكن إلا التاسعة، من حيث نسبة عدد القتلى بالمقارنة بعدد سكان الأرض، خلال كل تاريخ آلاف الحروب “الإنسانية”):
توقفت القوى الدولية الكبرى عن صراعاتها الحربية، لتبدأ مرحلة: “السلام الطويل”، الذي توطّد بعد انتهاء الحرب الباردة، وإن تخلّلتهُ هنا وهناك: حروبٌ أهلية واستعمارية، إبادات جماعية لا سيما في أفريقيا والشرق، اضطهادُ الطغاة لشعوبهم، تفجيراتٌ إرهابية…
بيد أن الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية، بدءاً ب “بيان حقوق الإنسان” في 1948، دشّنت هذا المنعطف الجديد الذي نعيشه اليوم، والذي تعاظَم بقوة هائلة فيه: رفضُ الإنسان للعنف، للاستعمار، للعنصرية، لاضطهاد الأقليات والمثليين، لِسوء معاملة المرأة والأطفال.
كلّ ذلك بجانب التطور المذهل في القضاء على الأمراض والألم، وفي تمديد معدل عمر الإنسان على نحو مذهل (كان متوسط عمر الأغنياء في القرون الوسطى: 25 عامًا، و14 عامًا للفقراء!)، من دون الحديث عمّا قدمه تطوّر العلم والتكنولوجيا من سعادات لحياة الإنسان ورخائه.
مراجعة كل هذا التاريخ المرتبط بانحسار العنف، إنطلاقًا من دور الأدب والثقافة والفلسفة والتنوير كقوى تاريخية لعبت دورًا حاسمًا في تحقيق ذلك، وإنطلاقًا أيضًا من تأرجحات الطبيعة الإنسانية، بجانبيها “الملائكي” و”الشيطاني”، يحتاج إلى تقديمٍ وتمحيصٍ طويل.
سأتوقف قليلاً هنا عند هذه الأسئلة:
هل ميلُ الطبيعة الإنسانية إلى اعتبار أن “الماضي أفضل دومًا” هو السبب الذي يجعلنا لا نصدق أحيانًا هذه النتيجة المدهشة، لكتاب ستيفن بانكير؟ أم أن جهل الأرقام والمعطيات التاريخية حول حقيقة انحسار العنف التاريخية هو سببُ قصر النظر الإنساني في هذا المجال؟ أم أن ما هو حاضرٌ في أذهاننا (صورُ العنف الذي نراه في وسائل الإعلام، التي لا يُهمّها إلا رفع عدد متابعيها) هو ما يظل لاصقًا بذاكرتنا، وما يقودنا إلى هذا الاختصار الذهني:
“الماضي أفضل”، هو “الزمن الجميل”. وبالطبع: “يا عيني على الزمن الجميل!”…
في رأيي: السببان الثاني والثالث معًا هما ما يقوداننا إلى هذا التأليه الرومانسي، الأعمى والأعرج للماضي.
شخصيًا، قبل قراءة هذا الكتاب، وقبل قراءة كتاب “في ظل السيف” (للمؤرخ توم هولاند، الذي يستعرض فيه تاريخ القرون القليلة التي سبقت نشوء الإسلام، والقرن الأول الذي لحقه)، كنتُ، لرغبةٍ معرفيةٍ بحتة، أحلم أحيانًا أن أحيا في قرون سحيقة، منها:
قُبيل وبُعيد القرن الخامس قبل الميلاد: كيما أرى نشوء الديمقراطية والفلسفة الإغريقية، ولادة التوراة كما ألّفها كهنة وأحبار اليهود، مجتمع كونفيشوس وسان تزو في الصين. ومنها أيضًا: كل الفترة التي درسها كتابُ “في ظل السيف”، وتعقّبَ تفاصيلها، من أقصى مدن الحضارة الرومانية في روما وقسطنطينية، إلى أقصى الحضارة الفارسية شرقًا، مرورًا بجزيرة العرب: كيما أرى تاريخ نشوء الإسلام بأمّ عينيّ، من مسرح الواقع مباشرة.
غير أني عندما رأيتُ تفاصيل وباء الطاعون الذي أطاح بثلث سكان الحضارتين الرومانية والفارسية حينذاك (ونجا منه، بفضل عازل الصحراء، أهلُ الجزيرة العربية)، وعندما رأيتُ بشكل خاص تفاصيل عنف وخرائب سلسلة الحروب بين سكان الحضارتين الرومانية والفارسية، غيّرتُ رأيي سريعًا: “لا أتمنى العيش في أي عصرٍ سابق. أنا سعيد بأني ابن عصر هذا “السلام الطويل”.
يصعب عليّ أن أنهي هذا المقال، الذي أكتبه اليوم: 25 نوفمبر، “اليوم الدولي لرفض العنف ضد المرأة”، من دون الحديث عن العنف والاغتصاب الجنسي.
لا شك أن الاغتصاب الجنسي (الذي يدرس كتاب ستيفان بانكير تاريخَه، ودوافعَه في الطبيعة الإنسانية) أحدُّ أبشع الجرائم الإنسانية، إن لم يكن أبشعَها، لما يتركه من خرائب نفسية لا يمكن ترميمها.
يكفي أن نلاحظ أن بين عامي 1975 و2010 انخفضت ممارسته بأكثر من 80٪، في أمريكا مثلاً. فبين 250 اغتصاباً لكل 100 ألف إنسان في 1973، صار العدد 50 لكل 100 ألف إنسان في 2008.
لعبت القوانين المدنية الإنسانية دورًا كبيرًا في الحدِّ منه، بعد أن كان يُمارَس في الخفاء، ويُقلَّلُ من شأنه ، مما يشغل بالي دومًا: حرّمتْ كتب الأديان الكبرى السرقةَ، أو أكلَ الخنزير، أو غيرها، لكنها لم تُحرِّم الاغتصاب الجنسي الذي كان يُمارَس دومًا في الحياة اليومية، ليس مع نساء المهزومين في الغزوات وأطفالهم، أو الجواري والعبيد فقط، ولكن في يوميات حياة الناس. كان الاغتصاب غالباً آنذاك عنوانَ فحولة الرجل. يقودُ أبَ المغتَصبة، في أفضل الأحوال، إلى تزويجها بمغتصِبِها، إن لم تُعتَبر هي، رغم كونها الضحية، مرتكبِةَ الزنى لتُرمى حتى الموت بالحجارة.
تغيّرت الأشياء كليةً اليوم، مع ارتفاع هذا “الجانب الملائكي” لدى الإنسان. وما حدثَ في الأسابيع الأخيرة يُعزِّز من نتائج دراسات كتاب ستيفان بانكير المدهشة:
أقصدُ هنا: هذه الثورة العارمة التي انفجرت بعد إدانة بعض الممثلات للمنتج السينمائي الأمريكي: وينستاين، لتحرّشه الجنسي بهن، وما لحقه من طرد وزيرٍ إنكليزي من الحكومة البريطانية لأنه لمس فخذ فتاة قبل 15 عامًا. ثمّ طرد أحد كبار مسؤولي أكاديمية جائزة نوبل، بسبب تحرشاته واغتصاباته الجنسية.
انفجرتِ اليوم ثورة نسائية عارمة لإدانة المغتصِبين في كل أنحاء العالم. فضَحت كثيرٌ من النساء، عبر الشبكات الاجتماعية، متَّهمين ومجرمين، تنتظرهم لذلك المحاكم. ما زالت أصداءُ هذه الثورة ضعيفةً جدًا في الدول العربية والإسلامية، وإن بدأت بشكل متواضع جداً في لبنان وتونس والمغرب.
لعلَّ كل ذلك سيقود مستقبلاً إلى مزيدٍ من انحسار العنف الإنساني، وإلى منظومةِ علاقات إنسانية جديدة بين المرأة والرجل، أرقى وأنبل من أي وقتٍ مضى.
قد يبدو مفاجئًا جدًا للقارئ، لا سيما العربي الذي يعيش في ظروف تاريخية عنيفة: كلُّ أنواع العنف البشري، من الحروب العسكرية، وحتى اللطمة الصغيرة على مؤخرة الطفل، مرورًا بالعنف الجنسي، لم تتوقف عن التراجع والانحسار، منذ فجر الحياة الإنسانية على وجه الأرض.
ليس تراجعًا خطيًّا منتظمًا بالطبع: تمرّ فتراتٌ ما يمكن للعنفِ أن يرتفع فيها قليلاً، لكن، على المدى البعيد، كل الخطوط البيانية لِحجم العنف البشري في هبوطٍ مضطردٍ مذهل، إلى ذلك الحد الذي يسمح بالقول بأن الإنسان يعيش اليوم، بشكل عام، أنعمَ حقب تاريخه وأكثرها سلامًا وطمأنينة!
تلك خلاصة كتاب ستيفان بانكير الأخير: “الجانب الملائكي للإنسان: تاريخ العنف وانحساره”، 1050 صفحة.
يبلوِر فيه آلاف الدراسات، لِفرق أبحاث دولية خلال 30 عامًا، حول تاريخ العنف. مشحونةٌ صفحاتُه بعدد رهيب من الرسومات البيانية الدقيقة التي تكشف جميعها سرّ اختياره لعبارة إبراهام لينكولن: “الجانب الملائكي للإنسان”. مثلُ كل كتبه، هو حدثٌ فكريٌّ مهم.
ستيفان بانكير، في الحقيقة، أحد أكبر المفكرين والباحثين المعاصرين: أستاذ “علم النفس الذهني” في جامعة هارفارد: تخصصٌ يضمّ العلومَ المعرفية والذهنية، علوم عصبونات الدماغ، وعلوم النفس الاجتماعية والتطوّرية.
تخصص أبحاثه: “الطبيعة الإنسانية”. أحد كتبه السابقة، بهذا العنوان، مرجعٌ جوهري، وجزءٌ ضروري من الثقافة العامة أو التخصصية اللازمةِ لكل مثقف. يستعرض فيه بنية وهيئة الروح الإنسانية، كما تكشفها ميكروسوبات العلوم الحديثة وأبحاثها المشتركة والمتعددة التخصصات.
هكذا، حسب كتابه الجديد، لم تتوقف عصبية العنف البشري عن الاضمحلال عبر تاريخ الإنسان: فقبل بدئه عصر الزراعة، عاش الإنسانُ، معظم تاريخه، صيادًا قطّافًا يحيا حياةَ الغاب الهمجية، يغزو وينهب ويقتل الآخر، على نحوٍ لا يختلف كثيرًا عن حياة الدواب والضواري. ثم تقلَّص العنف بمختلف أنواعه حوالى عشرة مرات، بعد بدء الحضارة الزراعية.
كذلك حال كل الحقبة بين نهاية القرون الوسطى وبداية القرن العشرين: تقلّص حجم العنف البشري عمومًا حوالي عشرة مرات أيضًا، بعد أن كان عنفُ القرون الوسطى وحروبها الدينية يكتسحُ حياة البشر:
كان الإنسان يقضي حياته، خلال هذه القرون الوسطى، يُنهي حربًا ليبدأ أخرى، همُّه النهب والسيادة والسيطرة والانتقام والاستباق، أو بكل بساطة: “استعراض من يستطيع البولَ أبعد من الآخر”، وكانت إمرأةٌ بين اثنتين تعاني، في تلك القرون، من الاغتصاب الجنسي.
لعب عصرُ العقل والأنوار، ابتداءً من القرن السابع عشر، وبشكل خاص القرن الثامن عشر، دورَ منعطفٍ تاريخي في أواخر قرون تلك الحقبة السابقة للقرن العشرين:
بدأت خلاله سيرورات إلغاء العبودية والاستبداد، ومعارك القتل الثنائية (أتذكّرُ حالياً بألم وفاة بوشكين!)، والتعذيب، وهمجية التعامل مع الحيوانات، وإعدام السحرة، والعقوبات السادية، والإعدام… أي ما يُسمّى غالبًا: الثورة الإنسانية.
ثمّ بدأ منعطفٌ تاريخي جديد عقب الحرب العالمية الثانية (التي، وإن مات خلالها 55 مليون إنسان، لم تكن إلا التاسعة، من حيث نسبة عدد القتلى بالمقارنة بعدد سكان الأرض، خلال كل تاريخ آلاف الحروب “الإنسانية”):
توقفت القوى الدولية الكبرى عن صراعاتها الحربية، لتبدأ مرحلة: “السلام الطويل”، الذي توطّد بعد انتهاء الحرب الباردة، وإن تخلّلتهُ هنا وهناك: حروبٌ أهلية واستعمارية، إبادات جماعية لا سيما في أفريقيا والشرق، اضطهادُ الطغاة لشعوبهم، تفجيراتٌ إرهابية…
بيد أن الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية، بدءاً ب “بيان حقوق الإنسان” في 1948، دشّنت هذا المنعطف الجديد الذي نعيشه اليوم، والذي تعاظَم بقوة هائلة فيه: رفضُ الإنسان للعنف، للاستعمار، للعنصرية، لاضطهاد الأقليات والمثليين، لِسوء معاملة المرأة والأطفال.
كلّ ذلك بجانب التطور المذهل في القضاء على الأمراض والألم، وفي تمديد معدل عمر الإنسان على نحو مذهل (كان متوسط عمر الأغنياء في القرون الوسطى: 25 عامًا، و14 عامًا للفقراء!)، من دون الحديث عمّا قدمه تطوّر العلم والتكنولوجيا من سعادات لحياة الإنسان ورخائه.
مراجعة كل هذا التاريخ المرتبط بانحسار العنف، إنطلاقًا من دور الأدب والثقافة والفلسفة والتنوير كقوى تاريخية لعبت دورًا حاسمًا في تحقيق ذلك، وإنطلاقًا أيضًا من تأرجحات الطبيعة الإنسانية، بجانبيها “الملائكي” و”الشيطاني”، يحتاج إلى تقديمٍ وتمحيصٍ طويل.
سأتوقف قليلاً هنا عند هذه الأسئلة:
هل ميلُ الطبيعة الإنسانية إلى اعتبار أن “الماضي أفضل دومًا” هو السبب الذي يجعلنا لا نصدق أحيانًا هذه النتيجة المدهشة، لكتاب ستيفن بانكير؟ أم أن جهل الأرقام والمعطيات التاريخية حول حقيقة انحسار العنف التاريخية هو سببُ قصر النظر الإنساني في هذا المجال؟ أم أن ما هو حاضرٌ في أذهاننا (صورُ العنف الذي نراه في وسائل الإعلام، التي لا يُهمّها إلا رفع عدد متابعيها) هو ما يظل لاصقًا بذاكرتنا، وما يقودنا إلى هذا الاختصار الذهني:
“الماضي أفضل”، هو “الزمن الجميل”. وبالطبع: “يا عيني على الزمن الجميل!”…
في رأيي: السببان الثاني والثالث معًا هما ما يقوداننا إلى هذا التأليه الرومانسي، الأعمى والأعرج للماضي.
شخصيًا، قبل قراءة هذا الكتاب، وقبل قراءة كتاب “في ظل السيف” (للمؤرخ توم هولاند، الذي يستعرض فيه تاريخ القرون القليلة التي سبقت نشوء الإسلام، والقرن الأول الذي لحقه)، كنتُ، لرغبةٍ معرفيةٍ بحتة، أحلم أحيانًا أن أحيا في قرون سحيقة، منها:
قُبيل وبُعيد القرن الخامس قبل الميلاد: كيما أرى نشوء الديمقراطية والفلسفة الإغريقية، ولادة التوراة كما ألّفها كهنة وأحبار اليهود، مجتمع كونفيشوس وسان تزو في الصين. ومنها أيضًا: كل الفترة التي درسها كتابُ “في ظل السيف”، وتعقّبَ تفاصيلها، من أقصى مدن الحضارة الرومانية في روما وقسطنطينية، إلى أقصى الحضارة الفارسية شرقًا، مرورًا بجزيرة العرب: كيما أرى تاريخ نشوء الإسلام بأمّ عينيّ، من مسرح الواقع مباشرة.
غير أني عندما رأيتُ تفاصيل وباء الطاعون الذي أطاح بثلث سكان الحضارتين الرومانية والفارسية حينذاك (ونجا منه، بفضل عازل الصحراء، أهلُ الجزيرة العربية)، وعندما رأيتُ بشكل خاص تفاصيل عنف وخرائب سلسلة الحروب بين سكان الحضارتين الرومانية والفارسية، غيّرتُ رأيي سريعًا: “لا أتمنى العيش في أي عصرٍ سابق. أنا سعيد بأني ابن عصر هذا “السلام الطويل”.
يصعب عليّ أن أنهي هذا المقال، الذي أكتبه اليوم: 25 نوفمبر، “اليوم الدولي لرفض العنف ضد المرأة”، من دون الحديث عن العنف والاغتصاب الجنسي.
لا شك أن الاغتصاب الجنسي (الذي يدرس كتاب ستيفان بانكير تاريخَه، ودوافعَه في الطبيعة الإنسانية) أحدُّ أبشع الجرائم الإنسانية، إن لم يكن أبشعَها، لما يتركه من خرائب نفسية لا يمكن ترميمها.
يكفي أن نلاحظ أن بين عامي 1975 و2010 انخفضت ممارسته بأكثر من 80٪، في أمريكا مثلاً. فبين 250 اغتصاباً لكل 100 ألف إنسان في 1973، صار العدد 50 لكل 100 ألف إنسان في 2008.
لعبت القوانين المدنية الإنسانية دورًا كبيرًا في الحدِّ منه، بعد أن كان يُمارَس في الخفاء، ويُقلَّلُ من شأنه ، مما يشغل بالي دومًا: حرّمتْ كتب الأديان الكبرى السرقةَ، أو أكلَ الخنزير، أو غيرها، لكنها لم تُحرِّم الاغتصاب الجنسي الذي كان يُمارَس دومًا في الحياة اليومية، ليس مع نساء المهزومين في الغزوات وأطفالهم، أو الجواري والعبيد فقط، ولكن في يوميات حياة الناس. كان الاغتصاب غالباً آنذاك عنوانَ فحولة الرجل. يقودُ أبَ المغتَصبة، في أفضل الأحوال، إلى تزويجها بمغتصِبِها، إن لم تُعتَبر هي، رغم كونها الضحية، مرتكبِةَ الزنى لتُرمى حتى الموت بالحجارة.
تغيّرت الأشياء كليةً اليوم، مع ارتفاع هذا “الجانب الملائكي” لدى الإنسان. وما حدثَ في الأسابيع الأخيرة يُعزِّز من نتائج دراسات كتاب ستيفان بانكير المدهشة:
أقصدُ هنا: هذه الثورة العارمة التي انفجرت بعد إدانة بعض الممثلات للمنتج السينمائي الأمريكي: وينستاين، لتحرّشه الجنسي بهن، وما لحقه من طرد وزيرٍ إنكليزي من الحكومة البريطانية لأنه لمس فخذ فتاة قبل 15 عامًا. ثمّ طرد أحد كبار مسؤولي أكاديمية جائزة نوبل، بسبب تحرشاته واغتصاباته الجنسية.
انفجرتِ اليوم ثورة نسائية عارمة لإدانة المغتصِبين في كل أنحاء العالم. فضَحت كثيرٌ من النساء، عبر الشبكات الاجتماعية، متَّهمين ومجرمين، تنتظرهم لذلك المحاكم. ما زالت أصداءُ هذه الثورة ضعيفةً جدًا في الدول العربية والإسلامية، وإن بدأت بشكل متواضع جداً في لبنان وتونس والمغرب.
لعلَّ كل ذلك سيقود مستقبلاً إلى مزيدٍ من انحسار العنف الإنساني، وإلى منظومةِ علاقات إنسانية جديدة بين المرأة والرجل، أرقى وأنبل من أي وقتٍ مضى.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.