4 أيام متتالية.. مفاجأة في إجازة عيد العمال وشم النسيم 2024 للموظفين (التفاصيل)    محافظ كفر الشيخ ونائبه يتفقدان مشروعات الرصف فى الشوارع | صور    البنك المركزي: ارتفاع عدد فروع البنوك إلى 4680 فرعًا بنهاية 2023    هيئة الرقابة المالية تصدر ضوابط تسويق منتجات التأمين عبر فروع شركات الاتصالات    انطلاق فعاليات المؤتمر العلمي السابع لكلية الطب البيطري بجامعة كفرالشيخ    استطلاع «GoDaddy»: نحو 93% من رواد الأعمال بمصر يتبنون التكنولوجيا في أعمالهم    رئيس الوزراء يحدد موعد إجازة شم النسيم    بقرار من الرئيس.. بدء التوقيت الصيفي الجمعة المقبلة بتقديم الساعة 60 دقيقة    أسامة ربيع يبحث مع السفير المصرى بكوريا الجنوبية سبل تعزيز التعاون فى الصناعات البحرية    وزير الخارجية الأيرلندي: نثمن جهود مصر لوقف إطلاق النار في غزة (فيديو)    بيلجورود الروسية تكشف عدد الق.تلى المدنيين في هجمات أوكرانيا منذ بدء الحرب    من هم اللاعبين الرئيسيين في المحاكمة الجنائية لدونالد ترامب؟    بطولة أبطال الكؤوس الإفريقية.. فريق الزمالك لكرة اليد يواجه الأبيار الجزائري    عضو مجلس إدارة الأهلي: نحقق عوائد تناسب حجم النادي    غياب هالاند وفودين عن تدريب سيتي قبل لقاء برايتون    وفد من الشباب والرياضة يجري جولة متابعة للهيئات الشبابية والرياضية بالمنيا    سيدات سلة الأهلي يواجه مصر للتأمين في الدوري    «نجم عربي إفريقي».. الأهلي يقترب من حسم صفقة جديدة (خاص)    محافظة الجيزة تزيل سوقا عشوائيا بكفر طهرمس    وزير العدل يفتتح مؤتمر الذكاء الاصطناعي وأثره على حقوق الملكية الفكرية (صور)    الإعدام شنقا للأب الذئب البشري في الشرقية    مصرع سائق في حادث تصادم بسوهاج    مدير تعليم دمياط يتابع إجراء امتحانات صفوف النقل للعام الدراسي 2024    شكسبير كلمة السر.. قصة الاحتفال باليوم العالمي للكتاب    شارك في كتابة «عالم سمسم» و«بكار».. من هو السيناريست الراحل تامر عبد الحميد؟    بيومي فؤاد يتذيل قائمة الإيرادات.. أسود ملون الأضعف في شباك تذاكر الأفلام (بالأرقام)    دار الإفتاء: شم النسيم عادة مصرية قديمة والاحتفال به مباح شرعًا    هل يحق للزوج التجسس على زوجته لو شك في سلوكها؟.. أمينة الفتوى تجيب    وزيرا الصحة والبترول يشهدان توقيع اتفاقيتين للمساهمة المجتمعية لقطاع البترول في دعم الرعاية الصحية بمطروح وبورسعيد    نستورد 25 مليون علبة.. شعبة الأدوية تكشف تفاصيل أزمة نقص لبن الأطفال    غدا .. انطلاق قافلة طبية بقرية الفقاعى بالمنيا    هل مكملات الكالسيوم ضرورية للحامل؟- احذري أضرارها    اللعبة الاخيرة.. مصرع طفلة سقطت من الطابق الرابع في أكتوبر    فرج عامر: الفار تعطل 70 دقيقة في مباراة مازيمبي والأهلي بالكونغو    رئيس شُعبة المصورين الصحفيين: التصوير في المدافن "مرفوض".. وغدًا سنبحث مع النقابة آليات تغطية الجنازات ومراسم العزاء    السفير طلال المطيرى: مصر تمتلك منظومة حقوقية ملهمة وذات تجارب رائدة    هل يستمر عصام زكريا رئيسًا لمهرجان الإسماعيلية بعد توليه منصبه الجديد؟    آخر تطورات الحالة الصحية ل الشناوي، وتفاصيل وعد حسام حسن لحارس الأهلي    «النواب» يبدأ الاستماع لبيان وزير المالية حول الموازنة العامة الجديدة    خلال الاستعدادات لعرض عسكري.. مقتل 10 أشخاص جراء اصطدام مروحيتين ماليزيتين| فيديو    رئيس جامعة عين شمس والسفير الفرنسي بالقاهرة يبحثان سبل التعاون    "ضربها بمزهرية".. تفاصيل مقتل مسنة على يد سباك بالحدائق    البرلمان يحيل 23 تقريرا من لجنة الاقتراحات والشكاوى للحكومة لتنفيذ توصياتها    وزير الأوقاف من الرياض: نرفض أي محاولة لتهجير الشعب الفلسطيني وتصفية قضيته    جيش الاحتلال الإسرائيلي يقصف مناطق لحزب الله في جنوب لبنان    قطاع الدراسات العليا بجامعة القناة يعلن مواعيد امتحانات نهاية الفصل الدراسي الثاني    متحدث وزارة العمل: تعيين 14 ألف شخص من ذوي الهمم منذ بداية 2023    سقوط المتهم بالنصب على الطلاب في دورات تعليمية بسوهاج    تحذيرات هيئة الأرصاد الجوية من ارتفاع درجات الحرارة ونصائح الوقاية في ظل الأجواء الحارة    رئيس الأركان الإيراني: ندرس كل الاحتمالات والسيناريوهات على المستوى العملياتي    الرئيس السيسى يضع إكليلا من الزهور على النصب التذكارى للجندى المجهول    بمناسبة اقتراب شم النسيم.. أسعار الرنجة والفسيخ اليوم الثلاثاء 23/4/2024    نيللي كريم تثير فضول متابعيها حول مسلسل «ب100 وش»: «العصابة رجعت»    الرئيس البولندي: منفتحون على نشر أسلحة نووية على أراضينا    حظك اليوم برج الميزان الثلاثاء 23-4-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    مستدلاً بالخمر ولحم الخنزير.. علي جمعة: هذا ما تميَّز به المسلمون عن سائر الخلق    الإفتاء: التسامح في الإسلام غير مقيد بزمن أو بأشخاص.. والنبي أول من أرسى مبدأ المواطنة    علي جمعة: منتقدو محتوى برنامج نور الدين بيتقهروا أول ما نواجههم بالنقول    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فائزو جائزة العويس يكشفون أسرار الكتابة
نشر في صوت البلد يوم 18 - 12 - 2019

كشفت شهادات الفائزين بجائزة سلطان العويس الثقافية في دورتها السادسة عشرة "2018 2019" حول سيرتهم الإبداعية والثقافية، عن زوايا مهمة في التكوين الثقافي وتأثيراته على تشكل رؤاهم وأفكارهم، وكذا أبرز الأحداث التي ألقت بظلالها على الانتقالات الرئيسية في كتاباتهم، فانطلق الشاعر والناقد د.علي جعفر العلاق من وقائع الطفولة ودور الأم التي احتوته عقب رحيل الأب، وبدايات ولادة الشاعر فيه، ثم ولادة القصيدة والمجموعة الشعرية الأولى، ومعايشته لشعراء جيل الستينيات، ومغادرته العراق للعمل بالامارات.. إلخ، فيما ذهبت الروائية علوية صبح إلى السؤال: لماذا لم أستطع حتى الآن أن أكتب بمعزل عن الحرب اللبنانية التي تركت آثارها على كتابتي؟ لنتعرف على إضاءات مهمة في سيرتها وسيرة رواياتها.
أما الناقد د.محمد لطفي اليوسفي فتدرجت شهادته من الفتنة بالشعراء في المرحلة الإعدادية وحتى دخوله الجامعة مخفورًا بالمبدعين رفاق دربه ودخوله إلى عالم النقد قديمة وحديثة وبدء اشتغاله بالتجديد والمغايرة، وذهب د.حيدر إبراهيم علي إلى الحب والحرية كأعلى قيم في حياته، أما الشيخة مي بنت محمد آل خليفة الفائزة بجائزة سلطان العويس للإنجاز الثقافي والعلمي، فقد حمل بيان مجلس أمناء الجائزة، وكذا مقال عنها الكثير من تفاصيل دورها الثقافي الوطني في البحرين.
وهنا نقتطف من كل شهادة من هذه الشهادات التي حملها الكتاب الذي أصدرته مؤسسة العويس بعنوان "الفائزين بجائزة سلطان بن علي العويس الثقافية" ما يلقي الضوء على جانب من الجوانب الثرية المتنوعة التي تحملها شخصيات الفائزين.
الشيخة مي والاستثمار في الثقافة
الشيخة مي بنت محمد آل خليفة شخصية رائدة في المشهد الثقافي والفني العربي، حيث قادت الجهود الوطنية الرامية إلى تطوير البنية التحتية الثقافية في مملكة البحرين للحفاظ على التراث وتنمية السياحة المستدامة، تشغل حاليًا منصب رئيس هيئة البحرين للثقافة والآثار، وهي تعد الشخصية الأبرز في هذا المجال، إذ ترأست قبل منصبها الحالي حقيبتي وزارة الثقافة والإعلام ثم وزارة الثقافة. وانطلاقًا من كونها مؤسس مركز الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة للثقافة والبحوث ورئيس مجلس أمنائه منذ عام 2002 تعمل الشيخة مي دون كلل لتعزيز الثقافة والحفاظ على التراث العمراني البحريني، وأطلقت في سبيل ذلك مبادرة الاستثمار في الثقافة، والتي ساهمت في بناء شراكة غير مسبوقة بين القطاعين العام والخاص من أجل الحفاظ على التراث، وجاء ضمن أبرز ثمارها إنشاء متحف موقع قلعة البحرين وتشييد مسرح البحرين الوطني الذي يعد من أهم عوامل جذب السياحة الثقافية للمملكة. جعلت بناء قدرات الشباب في مجالات التراث والتنمية الثقافية من أولوياتها الرئيسة، حيث أسست في هذا الإطار مبادرة "تاء الشباب"، وهي عبارة عن منتدى شبابي يحتضن المواهب البحرينية الناشئة ويعنى بنشر الحوار الثقافي فيما بينها، ومن بين أهم إنجازاتها العديدة إدراج ثلاثة مواقع تراثية بالمملكة على قائمة التراث الإنساني العالمي لليونسكو، وهي موقع قلعة البحرين، موقع طريق اللؤلؤ، موقع تلال مدافن دلمون، بالإضافة إلى إنشاء المركز الإقليمي العربي للتراث العالمي، وهو مركز تابع لليونسكو من الفئة الثانية يسهر على التراث الطبيعي والثقافي لكل الدول العربية.
العلاق ورحلته الشعرية
ربما بدت مجموعتي الأولى "لا شيء يحدث .. لا أحد يجيء" 1973، وكأنها محاولة للتعامل بطريقة خاصة، مع اللغة، والصورة، والإيقاع، وكانت مغامرة بالنسبة لشاعر يصدر ديوانه الأول أن يظن، ومنذ البداية، أن باستطاعته أن يربك إيقاع الموج أو يترك بعض الخدوش على هذه الأعمدة الشعرية الثلاثة من أعمدة القصيدة المتعارف عليها، لذلك كانت اللغة شاغلي الأول في تلك المجموعة، حتى أنني كنت أبالغ أحيانًا في العناية بها، وتنقيتها من حسك الطريق وما يتساقط من ثياب المارة، ولأنني شديد النفور من الثرثرة الشعرية والتعبير المطول، حد التخمة، عن معنى ما، كنت أتمادى في العمل أحيانًا على أن يكون النص الذي أكتبه موجزًا وخاليًا إلى أقصى حد ممكن من النتوءات والاستطالات، والباروكات اللغوية الفائضة عن الحاجة، كنت كمن يسعى إلى قصيدة ملمومة، مكتفية بذاتها، تومئ أكثر مما تتحدث، وتحس أكثر مما تفهم، وكان المعنى لا يسلم من الأذى دائما نتيجة هذه النزعة إلى التضييق والإيجاز.
أما ولعي بالصورة، فكاد أن يصل حد الهوس، وحتى هذه اللحظة لا أجد مبتغاي في القصيدة التي تهرول إلى معناها مباشرة، دون جهد يضبب المعنى ويخفف من ملامحه الحادة. كنت أعتقد أن القصيدة لا تدل على نفسها إلا من خلال عناية فنية لا تكتم أنفاس النص، ولا تقوده إلى مصير قري يفرضه الشاعر. وظل هذا النزوع إلى التعبير بالصور يرافقني في معظم كتاباتي الشعرية اللاحقة، مع أنني كنت أسعى إلى جعله أكثر انضباطا قدر ما أستطيع.
ولم يكن ميلي إلى الإيقاع إلا جزءًا من توجه كنت أحاول ترسيخه في ما أكتب من نصوص، كنت أرى أن الإيقاع كان وسيظل، ولكن بدوافع جمالية ودلالية جديدة مكونًا شعريًّا مهما إذا أحسن الشاعر تمثل قيمته والكشف عن إمكانياته ولا أعني بالإيقاع هنا مديات البيت الشعري الموروث الجاهز أو المعد سلفًا فقط، بل ما في اللغة ذاتها من فيض كامن من الليونة والتموج والحوار بين المكونات. كنت أحاول في هذه المجموعة عرقلة بعض الأوزان الشعرية وتهدئة لهاثها المتسارع ولم أكن أبالي أحيانًا حتى بارتكاب بعض الوقفات الوزنية من أجل تحقيق هذا الغرض.
كنت، ومنذ بداياتي الأولى، مأخوذًا بالمجاز، وشديد النفور من التفاصيل. كنت أسعى إلى جملة شعرية لا تتجه إلى معناها في خط مستقيم، وإلى لغة مقتصدة، متخفية وكثيرة المفاجآت، وأحاول أن تكون قصيدتي ليلية إلى أقصى حد: لا مناطق قاحلة، ولا نهار يهتك السر، فالشعر كائن ليلي على الدوام: يوحي بالرهبة الجليلة وينمي الهاجس. إن الكثير من شعرنا هذه الأيام يغرق في باروكات لغوية فائضة عن الحاجة. أو نصوص شفافة، بالمعنى الهجائي الذي يذهب إليه تودوروف، حين تشف القصيدة عن هيكلها العظمي لافتقارها إلى الركيز وكثافة اللغة. ومع ذلك، فإنني لا أرى الجمال في معزل عن كرامة البشر، فللقصيدة كرامة لا تكتمل إلا بكرامة الناس الذين تخاطبهم وتلامس أحلامهم وأوجاعهم، لا بالصراخ والضجيج بل بالجمال والنبل اللذين يواجهان القبح والخراب والكذب.
علوية: عن أي مدينة أحكي؟
أسأل نفسي كثيرًا لماذا لم أستطع حتى الآن أن أكتب بمعزل عن الحرب اللبنانية التي تركت آثارها على كتابتي، رغم أنني أدرك تمامًا استحالة الكتابة بمعزل عن الذاكرة والحياة وتجربة الكاتب الذاتية والمجتمعية، فبعد المجموعة القصصية "نوم الأيام" التي عبرت فيها عن مناخات الحرب وأثرها في الذات وكوابيسها، وجدت نفسي بعد انتهاء الحرب أنساق إلى خارج الذات. تولدت لدي الحاجة إلى خلق عالم أوسع في الكتابة، انسقت خلالها لاستكشاف ذاتي وعالمي والتعبير عن خيبة جيلي في الحرب والحب والأحلام. وكل ذلك استدعاني إلى تقصي عوامل وتقنيات لم أردها جاهزة. وربما الصدمة بمدينة الحرب دفعتني إلى الفهم والاستكشاف. أكثر ما أقلقني قبل أن أبدأ بالكتابة هو السؤال: كيف أكتب عن، أو في أي مدينة لا تشبه المدن التي أنتجت سردًا ومتنًا، وتقنيات هي حصيلة تاريخية لمجتمعاتها وثقافتها؟ عن أي مدينة أحكي، وأنا التي عشت حروبها وتهجيراتها ومصائرها، ووجدت نفي أوائل العشرينيات من عمري في خضم حرب شوارع قذرة تكسر حلمي بمدينة علمانية رسمها لي وعيي الثقافي والإنساني؟ مدينة شهدت انهيار حلمها بالحداثة على مختلف المستويات حتى الثقافي منها، وانهيار حالة مدينية كانت مشعة قبل الحرب. والمدن تشبه ناسها، فذهبت إلى حكايا البطلات والأبطال لأكتشفها. وقادني ما هو ذاتي إلى مجتمعي وتاريخي. والحقيقة أنني وجدت نفسي أيضًا وأنا أروي عن الحرب القذرة ومصائر الأبطال التراجيدية فيها وخيبات النساء في التغيير وأحلام الحرية والحب، أذهب إلى حكايا البنات والأمهات والجدات، في لعبة مرايا بينهن لأستكشف وأعري المجتمع والشخصيات، وأجابه وأسخر وأنا أتوجع مما تكشفه لي الكتابة من عنف متجذر في المجتمع وخاصة ضد النساء. عنف كان أشبه بالصفعات لي. ذلك أنني لم أشعر يومًا أنني أكتب لأني أعرف بل لأستكشف وأفهم.
كتابتي في كل رواياتي تطلبت مني نزع الحجب والأقنعة واختراق المسكوت عنه في الحاضر والماضي وتجسيدها في المتخيل الروائي، كما تطلّب مني الذهاب إلى ما هو حقيقي ومتبئر، بحيث بدا لي ما هو تابو عاديًّا، علمًا بأن الجرأة لم تكن هاجسًا أو هدفًا يحرك العمل بقدر ما كانت حرية الكتابة وفنيتها، وأعتقد أن طريقتي في السرد والإخبار جعلتني أحاكي المشهد في حقيقته وصدقه، بمعزل عن أي رقابة ذاتية أو ردود فعل أو ادعاء جرأة.
اليوسفي والأرض المسحورة
كنت على يقين أن الشعراء الذين فتنت بهم وأنا في المرحلة الإعدادية لم يرحلوا عن الدنيا بل هم يقيمون في أرض متوارية عن الأنظار: امرؤ القيس وعنترة وقيس المفتون بليلى وعمر بن ربيعة وصويحباته وجميل ووضاح اليمن والمتنبي وغيرهم من الشعراء. احتموا بتلك الأرض المتخفية المسحورة، والطريق إليها لا تدرك إلا بالتوهم والخيال. لم أتمكن من أن أعطي الماضي فرصة كي يمضي؛ أو لم أرغب في ذلك. هذه الأرض المتوارية ستجتذب إليها كل الذين افتتنت بهم من أمثال مصطفى لطفي المنفلوطي وجبران والشابي ونجيب محفوظ وبدر شاكر السياب ومحمود درويش وبودلير ورامبو وماياكوفسكي وت. س. إليوت وبابلو نيرودا والأخوين ماتشادو والغجري العظيم فردريكو غارسيا لوركا الذي قاد خطايا إلى كتابة الشعر.
ليال طوال كنت لا يغمض لي جفن فيها وأنا أراود الشعر، لم أكن أملك المال الكافي لشراء دواوين نزار قباني وخليل حاوي وأدونيس وغيرهم، فكان أن تحولت وراقًا كل يوم، حال انتهاء الدروس، كنت أسير في أزقة أكلت الرطوبة والزمن كلس جدرانها، وأقصد المكتبة العامة لأستعير المجموعات الشعرية وأستنسخها، كان البرد والصقيع والضباب يلف مدينة باجة، كنت على يقين من أنني سأصبح شاعرًا والطريق إلى الشعر كربة ووعرة. لكنني لم أصبح شاعرًا.
تلفت إلى الرواية بعد ذلك وكان نجيب محفوظ طريقًا ودليلًا غير أنني خذلته عندما اكتشفت أن العالم أرحب، وقعت في دائرة السحر مختارًا فوجدتني مأخوذًا بكتابات دستويفسكي وتولستوي وليرمونتوف، وكانت ترجمات سامي الدروبي هي الدليل والطريق المؤدية، ثم تتالت الأسماء والتجارب: هنري باربوس، نيكوس كزانتزاكيس، جون بول سارتر، ألبير كامو، إرنست همنغواي، وليام فوكنر، شتاينباك، هنري ميلر. وكان أن جاءت الفتنة عارمة عاتية مدوخة من أميركا اللاتينية: غارسيا ماركيز، كارلوس فوانتيس، جورج أمادو وغيرهم.
ازداد يقيني أن هؤلاء المبدعين لم يرحلوا عن الدنيا بل عبروا إلى الجهة الأخرى واختاروا الإقامة في تلك الأرض المتوارية التي لا تدرك إلا بالتوهم والخيال.
حيدر إبراهيم والحظ
من أصعب الأمور على نفس الإنسان الطبيعي أن يتحدث عن ذاته وتجاربه خشية الوقوع في نرجسية ما. حاولت في إيجاد العبرة ووعي الحياة دون اختلال من خلال سرد التجارب الشخصية أو بعض من السيرة الذاتية، وبعد أكثر من سبعين عامًا يمكنني أن أقول إنني عشت تجربة شخص سعيد ومحظوظ وحقق ما تمناه في هذه الحياة، واستفاد من هذه المنحة والنعمة بطريقة إيجابية ومثمرة: خبرة السعادة سببها حب الناس، وتبادل المحبة مع كل من عرفت، لأن الكراهية والحقد شعور ثقيل على القلب والروح لا أستطيع حمله والتجول في دروب الحياة والزمن، والحب يجعل الحركة في الدنيا أكثر حرية ولطفًا. ومن هنا كانت رؤيتي للكون والطبيعة والإنسان قائمة على مبدأين: الحب والحرية هما أعلى القيم في حياتي، ولا أعرف المساومة والتنازل فيهما، وتوجب عليّ في هذا الموقف أن أكون صادقًا وملتزمًا على الدوام. لكي أكون سعيدًا كان عليّ أن أقارب لدرجة الدمج بين داخلي وخارجي، وأن أردم باستمرار بين الداخل والخارج،وهذا يعني ممارسة ما أقوله وما أفكر فيه، أي أعبر دون مواربة عما أفكر فيه ثم أحول ما أفكر فيه إلى أفعال وحياة يومية. هذا خيار شديد الصعوبة، ولكن هذا مضمون أن الحياة كفاح وكد وأنها تؤخذ غلابًا. حاولت تطبيق وصية: "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا". وأصبحت الحياة بالنسبة لي في كثير من الأحيان لحظة حاضرة يجب التمتع بها واستثمارها في كل ما يفيد المرء والناس، لذلك أعجبني القول ورددته كثيرًا " ما مضى فات، والمؤمل غيب، ولك الساعة التي أنت فيها". ومن هنا كان حرصي على الوقت وتنظيمه، وصارت علاقتي قوية بالزمان وضعيفة بالمكان. وهذا سر كوني عشت حياتي متنقلًا مهاجرًا أو منفيًّا، ولا أملك مسكنًا خاصًّا لا في وطني ولا في وطني ولا في البلدان والمدن التي تنقلت فيها.
كشفت شهادات الفائزين بجائزة سلطان العويس الثقافية في دورتها السادسة عشرة "2018 2019" حول سيرتهم الإبداعية والثقافية، عن زوايا مهمة في التكوين الثقافي وتأثيراته على تشكل رؤاهم وأفكارهم، وكذا أبرز الأحداث التي ألقت بظلالها على الانتقالات الرئيسية في كتاباتهم، فانطلق الشاعر والناقد د.علي جعفر العلاق من وقائع الطفولة ودور الأم التي احتوته عقب رحيل الأب، وبدايات ولادة الشاعر فيه، ثم ولادة القصيدة والمجموعة الشعرية الأولى، ومعايشته لشعراء جيل الستينيات، ومغادرته العراق للعمل بالامارات.. إلخ، فيما ذهبت الروائية علوية صبح إلى السؤال: لماذا لم أستطع حتى الآن أن أكتب بمعزل عن الحرب اللبنانية التي تركت آثارها على كتابتي؟ لنتعرف على إضاءات مهمة في سيرتها وسيرة رواياتها.
أما الناقد د.محمد لطفي اليوسفي فتدرجت شهادته من الفتنة بالشعراء في المرحلة الإعدادية وحتى دخوله الجامعة مخفورًا بالمبدعين رفاق دربه ودخوله إلى عالم النقد قديمة وحديثة وبدء اشتغاله بالتجديد والمغايرة، وذهب د.حيدر إبراهيم علي إلى الحب والحرية كأعلى قيم في حياته، أما الشيخة مي بنت محمد آل خليفة الفائزة بجائزة سلطان العويس للإنجاز الثقافي والعلمي، فقد حمل بيان مجلس أمناء الجائزة، وكذا مقال عنها الكثير من تفاصيل دورها الثقافي الوطني في البحرين.
وهنا نقتطف من كل شهادة من هذه الشهادات التي حملها الكتاب الذي أصدرته مؤسسة العويس بعنوان "الفائزين بجائزة سلطان بن علي العويس الثقافية" ما يلقي الضوء على جانب من الجوانب الثرية المتنوعة التي تحملها شخصيات الفائزين.
الشيخة مي والاستثمار في الثقافة
الشيخة مي بنت محمد آل خليفة شخصية رائدة في المشهد الثقافي والفني العربي، حيث قادت الجهود الوطنية الرامية إلى تطوير البنية التحتية الثقافية في مملكة البحرين للحفاظ على التراث وتنمية السياحة المستدامة، تشغل حاليًا منصب رئيس هيئة البحرين للثقافة والآثار، وهي تعد الشخصية الأبرز في هذا المجال، إذ ترأست قبل منصبها الحالي حقيبتي وزارة الثقافة والإعلام ثم وزارة الثقافة. وانطلاقًا من كونها مؤسس مركز الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة للثقافة والبحوث ورئيس مجلس أمنائه منذ عام 2002 تعمل الشيخة مي دون كلل لتعزيز الثقافة والحفاظ على التراث العمراني البحريني، وأطلقت في سبيل ذلك مبادرة الاستثمار في الثقافة، والتي ساهمت في بناء شراكة غير مسبوقة بين القطاعين العام والخاص من أجل الحفاظ على التراث، وجاء ضمن أبرز ثمارها إنشاء متحف موقع قلعة البحرين وتشييد مسرح البحرين الوطني الذي يعد من أهم عوامل جذب السياحة الثقافية للمملكة. جعلت بناء قدرات الشباب في مجالات التراث والتنمية الثقافية من أولوياتها الرئيسة، حيث أسست في هذا الإطار مبادرة "تاء الشباب"، وهي عبارة عن منتدى شبابي يحتضن المواهب البحرينية الناشئة ويعنى بنشر الحوار الثقافي فيما بينها، ومن بين أهم إنجازاتها العديدة إدراج ثلاثة مواقع تراثية بالمملكة على قائمة التراث الإنساني العالمي لليونسكو، وهي موقع قلعة البحرين، موقع طريق اللؤلؤ، موقع تلال مدافن دلمون، بالإضافة إلى إنشاء المركز الإقليمي العربي للتراث العالمي، وهو مركز تابع لليونسكو من الفئة الثانية يسهر على التراث الطبيعي والثقافي لكل الدول العربية.
العلاق ورحلته الشعرية
ربما بدت مجموعتي الأولى "لا شيء يحدث .. لا أحد يجيء" 1973، وكأنها محاولة للتعامل بطريقة خاصة، مع اللغة، والصورة، والإيقاع، وكانت مغامرة بالنسبة لشاعر يصدر ديوانه الأول أن يظن، ومنذ البداية، أن باستطاعته أن يربك إيقاع الموج أو يترك بعض الخدوش على هذه الأعمدة الشعرية الثلاثة من أعمدة القصيدة المتعارف عليها، لذلك كانت اللغة شاغلي الأول في تلك المجموعة، حتى أنني كنت أبالغ أحيانًا في العناية بها، وتنقيتها من حسك الطريق وما يتساقط من ثياب المارة، ولأنني شديد النفور من الثرثرة الشعرية والتعبير المطول، حد التخمة، عن معنى ما، كنت أتمادى في العمل أحيانًا على أن يكون النص الذي أكتبه موجزًا وخاليًا إلى أقصى حد ممكن من النتوءات والاستطالات، والباروكات اللغوية الفائضة عن الحاجة، كنت كمن يسعى إلى قصيدة ملمومة، مكتفية بذاتها، تومئ أكثر مما تتحدث، وتحس أكثر مما تفهم، وكان المعنى لا يسلم من الأذى دائما نتيجة هذه النزعة إلى التضييق والإيجاز.
أما ولعي بالصورة، فكاد أن يصل حد الهوس، وحتى هذه اللحظة لا أجد مبتغاي في القصيدة التي تهرول إلى معناها مباشرة، دون جهد يضبب المعنى ويخفف من ملامحه الحادة. كنت أعتقد أن القصيدة لا تدل على نفسها إلا من خلال عناية فنية لا تكتم أنفاس النص، ولا تقوده إلى مصير قري يفرضه الشاعر. وظل هذا النزوع إلى التعبير بالصور يرافقني في معظم كتاباتي الشعرية اللاحقة، مع أنني كنت أسعى إلى جعله أكثر انضباطا قدر ما أستطيع.
ولم يكن ميلي إلى الإيقاع إلا جزءًا من توجه كنت أحاول ترسيخه في ما أكتب من نصوص، كنت أرى أن الإيقاع كان وسيظل، ولكن بدوافع جمالية ودلالية جديدة مكونًا شعريًّا مهما إذا أحسن الشاعر تمثل قيمته والكشف عن إمكانياته ولا أعني بالإيقاع هنا مديات البيت الشعري الموروث الجاهز أو المعد سلفًا فقط، بل ما في اللغة ذاتها من فيض كامن من الليونة والتموج والحوار بين المكونات. كنت أحاول في هذه المجموعة عرقلة بعض الأوزان الشعرية وتهدئة لهاثها المتسارع ولم أكن أبالي أحيانًا حتى بارتكاب بعض الوقفات الوزنية من أجل تحقيق هذا الغرض.
كنت، ومنذ بداياتي الأولى، مأخوذًا بالمجاز، وشديد النفور من التفاصيل. كنت أسعى إلى جملة شعرية لا تتجه إلى معناها في خط مستقيم، وإلى لغة مقتصدة، متخفية وكثيرة المفاجآت، وأحاول أن تكون قصيدتي ليلية إلى أقصى حد: لا مناطق قاحلة، ولا نهار يهتك السر، فالشعر كائن ليلي على الدوام: يوحي بالرهبة الجليلة وينمي الهاجس. إن الكثير من شعرنا هذه الأيام يغرق في باروكات لغوية فائضة عن الحاجة. أو نصوص شفافة، بالمعنى الهجائي الذي يذهب إليه تودوروف، حين تشف القصيدة عن هيكلها العظمي لافتقارها إلى الركيز وكثافة اللغة. ومع ذلك، فإنني لا أرى الجمال في معزل عن كرامة البشر، فللقصيدة كرامة لا تكتمل إلا بكرامة الناس الذين تخاطبهم وتلامس أحلامهم وأوجاعهم، لا بالصراخ والضجيج بل بالجمال والنبل اللذين يواجهان القبح والخراب والكذب.
علوية: عن أي مدينة أحكي؟
أسأل نفسي كثيرًا لماذا لم أستطع حتى الآن أن أكتب بمعزل عن الحرب اللبنانية التي تركت آثارها على كتابتي، رغم أنني أدرك تمامًا استحالة الكتابة بمعزل عن الذاكرة والحياة وتجربة الكاتب الذاتية والمجتمعية، فبعد المجموعة القصصية "نوم الأيام" التي عبرت فيها عن مناخات الحرب وأثرها في الذات وكوابيسها، وجدت نفسي بعد انتهاء الحرب أنساق إلى خارج الذات. تولدت لدي الحاجة إلى خلق عالم أوسع في الكتابة، انسقت خلالها لاستكشاف ذاتي وعالمي والتعبير عن خيبة جيلي في الحرب والحب والأحلام. وكل ذلك استدعاني إلى تقصي عوامل وتقنيات لم أردها جاهزة. وربما الصدمة بمدينة الحرب دفعتني إلى الفهم والاستكشاف. أكثر ما أقلقني قبل أن أبدأ بالكتابة هو السؤال: كيف أكتب عن، أو في أي مدينة لا تشبه المدن التي أنتجت سردًا ومتنًا، وتقنيات هي حصيلة تاريخية لمجتمعاتها وثقافتها؟ عن أي مدينة أحكي، وأنا التي عشت حروبها وتهجيراتها ومصائرها، ووجدت نفي أوائل العشرينيات من عمري في خضم حرب شوارع قذرة تكسر حلمي بمدينة علمانية رسمها لي وعيي الثقافي والإنساني؟ مدينة شهدت انهيار حلمها بالحداثة على مختلف المستويات حتى الثقافي منها، وانهيار حالة مدينية كانت مشعة قبل الحرب. والمدن تشبه ناسها، فذهبت إلى حكايا البطلات والأبطال لأكتشفها. وقادني ما هو ذاتي إلى مجتمعي وتاريخي. والحقيقة أنني وجدت نفسي أيضًا وأنا أروي عن الحرب القذرة ومصائر الأبطال التراجيدية فيها وخيبات النساء في التغيير وأحلام الحرية والحب، أذهب إلى حكايا البنات والأمهات والجدات، في لعبة مرايا بينهن لأستكشف وأعري المجتمع والشخصيات، وأجابه وأسخر وأنا أتوجع مما تكشفه لي الكتابة من عنف متجذر في المجتمع وخاصة ضد النساء. عنف كان أشبه بالصفعات لي. ذلك أنني لم أشعر يومًا أنني أكتب لأني أعرف بل لأستكشف وأفهم.
كتابتي في كل رواياتي تطلبت مني نزع الحجب والأقنعة واختراق المسكوت عنه في الحاضر والماضي وتجسيدها في المتخيل الروائي، كما تطلّب مني الذهاب إلى ما هو حقيقي ومتبئر، بحيث بدا لي ما هو تابو عاديًّا، علمًا بأن الجرأة لم تكن هاجسًا أو هدفًا يحرك العمل بقدر ما كانت حرية الكتابة وفنيتها، وأعتقد أن طريقتي في السرد والإخبار جعلتني أحاكي المشهد في حقيقته وصدقه، بمعزل عن أي رقابة ذاتية أو ردود فعل أو ادعاء جرأة.
اليوسفي والأرض المسحورة
كنت على يقين أن الشعراء الذين فتنت بهم وأنا في المرحلة الإعدادية لم يرحلوا عن الدنيا بل هم يقيمون في أرض متوارية عن الأنظار: امرؤ القيس وعنترة وقيس المفتون بليلى وعمر بن ربيعة وصويحباته وجميل ووضاح اليمن والمتنبي وغيرهم من الشعراء. احتموا بتلك الأرض المتخفية المسحورة، والطريق إليها لا تدرك إلا بالتوهم والخيال. لم أتمكن من أن أعطي الماضي فرصة كي يمضي؛ أو لم أرغب في ذلك. هذه الأرض المتوارية ستجتذب إليها كل الذين افتتنت بهم من أمثال مصطفى لطفي المنفلوطي وجبران والشابي ونجيب محفوظ وبدر شاكر السياب ومحمود درويش وبودلير ورامبو وماياكوفسكي وت. س. إليوت وبابلو نيرودا والأخوين ماتشادو والغجري العظيم فردريكو غارسيا لوركا الذي قاد خطايا إلى كتابة الشعر.
ليال طوال كنت لا يغمض لي جفن فيها وأنا أراود الشعر، لم أكن أملك المال الكافي لشراء دواوين نزار قباني وخليل حاوي وأدونيس وغيرهم، فكان أن تحولت وراقًا كل يوم، حال انتهاء الدروس، كنت أسير في أزقة أكلت الرطوبة والزمن كلس جدرانها، وأقصد المكتبة العامة لأستعير المجموعات الشعرية وأستنسخها، كان البرد والصقيع والضباب يلف مدينة باجة، كنت على يقين من أنني سأصبح شاعرًا والطريق إلى الشعر كربة ووعرة. لكنني لم أصبح شاعرًا.
تلفت إلى الرواية بعد ذلك وكان نجيب محفوظ طريقًا ودليلًا غير أنني خذلته عندما اكتشفت أن العالم أرحب، وقعت في دائرة السحر مختارًا فوجدتني مأخوذًا بكتابات دستويفسكي وتولستوي وليرمونتوف، وكانت ترجمات سامي الدروبي هي الدليل والطريق المؤدية، ثم تتالت الأسماء والتجارب: هنري باربوس، نيكوس كزانتزاكيس، جون بول سارتر، ألبير كامو، إرنست همنغواي، وليام فوكنر، شتاينباك، هنري ميلر. وكان أن جاءت الفتنة عارمة عاتية مدوخة من أميركا اللاتينية: غارسيا ماركيز، كارلوس فوانتيس، جورج أمادو وغيرهم.
ازداد يقيني أن هؤلاء المبدعين لم يرحلوا عن الدنيا بل عبروا إلى الجهة الأخرى واختاروا الإقامة في تلك الأرض المتوارية التي لا تدرك إلا بالتوهم والخيال.
حيدر إبراهيم والحظ
من أصعب الأمور على نفس الإنسان الطبيعي أن يتحدث عن ذاته وتجاربه خشية الوقوع في نرجسية ما. حاولت في إيجاد العبرة ووعي الحياة دون اختلال من خلال سرد التجارب الشخصية أو بعض من السيرة الذاتية، وبعد أكثر من سبعين عامًا يمكنني أن أقول إنني عشت تجربة شخص سعيد ومحظوظ وحقق ما تمناه في هذه الحياة، واستفاد من هذه المنحة والنعمة بطريقة إيجابية ومثمرة: خبرة السعادة سببها حب الناس، وتبادل المحبة مع كل من عرفت، لأن الكراهية والحقد شعور ثقيل على القلب والروح لا أستطيع حمله والتجول في دروب الحياة والزمن، والحب يجعل الحركة في الدنيا أكثر حرية ولطفًا. ومن هنا كانت رؤيتي للكون والطبيعة والإنسان قائمة على مبدأين: الحب والحرية هما أعلى القيم في حياتي، ولا أعرف المساومة والتنازل فيهما، وتوجب عليّ في هذا الموقف أن أكون صادقًا وملتزمًا على الدوام. لكي أكون سعيدًا كان عليّ أن أقارب لدرجة الدمج بين داخلي وخارجي، وأن أردم باستمرار بين الداخل والخارج،وهذا يعني ممارسة ما أقوله وما أفكر فيه، أي أعبر دون مواربة عما أفكر فيه ثم أحول ما أفكر فيه إلى أفعال وحياة يومية. هذا خيار شديد الصعوبة، ولكن هذا مضمون أن الحياة كفاح وكد وأنها تؤخذ غلابًا. حاولت تطبيق وصية: "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا". وأصبحت الحياة بالنسبة لي في كثير من الأحيان لحظة حاضرة يجب التمتع بها واستثمارها في كل ما يفيد المرء والناس، لذلك أعجبني القول ورددته كثيرًا " ما مضى فات، والمؤمل غيب، ولك الساعة التي أنت فيها". ومن هنا كان حرصي على الوقت وتنظيمه، وصارت علاقتي قوية بالزمان وضعيفة بالمكان. وهذا سر كوني عشت حياتي متنقلًا مهاجرًا أو منفيًّا، ولا أملك مسكنًا خاصًّا لا في وطني ولا في وطني ولا في البلدان والمدن التي تنقلت فيها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.