ثلاثة أخبار تصلح مدخلا لهذه القضية، الخبر الأول يقول: إن هناك سباقًا شرسًا يدور بين عدة مؤسسات وشركات عالمية للاستحواذ على شركة «الرشيدى» الميزان أقدم شركة حلاوة طحينية فى مصر. الشركة تأسست عام 1889 ونمت وتوسعت واستمرت على مدى ثلاثة أجيال حتى استحوذت عليها شركة القلعة قبل بضعة سنوات. وتمتلك شركة الرشيدى الميزان حصة سوقية تبلغ 60% من سوق الحلاوة ونحو 68% من سوق الطحينة فى مصر. المُثير فى الأمر أن شركة «العليان» السعودية وشركة حلوانى اخوان السعودية على رأس الشركات المتقدمة بعروض شراء، وأن العرض يشمل أيضا شركة مزارع دينا المتخصصة فى إنتاج الألبان وصناعة اللبن البودرة. الخبر الثانى يقول إن شركة «كيللوج» الأمريكية نفذت قبل أيام صفقة للاستحواذ على أغلب أسهم شركة ماس فوود للمنتجات الغذائية، مقابل 51 مليون دولار. والمعروف أن «ماس فوود» هى أول شركة مصرية قامت بإنتاج رقائق الحبوب المعروفة باسم «الكورن فليكس»، حيث تم ذلك منتصف التسعينيات من القرن الماضى. وتعد الصفقة هى الثانية للشركة الأمريكية فى السوق المصرى بعد استحواذها على شركة «بسكو مصر» فى يناير الماضى. الخبر الثالث لم يُنشر وإنما أسر به أحد العاملين بقطاع الصناعات الغذائية ويشير إلى تلقى شركة ألبان كبيرة عرضاً من جانب ملياردير عربى للاستحواذ عليها بعد أزمة طارئة تعرضت لها. القصص برمتها تعنى أن ملكية الأجانب فى قطاع الصناعات الغذائية تتسع بشكل كبير رويدا، وأن رؤوس أموال ضخمة تُضخ إلى هذا القطاع كل يوم. كما تعنى أيضا أن هُناك صراعاً واسعا بين الشركات العالمية على سوق الغذاء المصرى، وربما كانت أبرز دلائله ذلك المزاد الذى شهدته البورصة المصرية بين شركة «كيللوج» الأمريكية وبين أبراج الإماراتية على أسهم «بسكو مصر» والذى حُسم فى النهاية لكيللوج صاحبة السعر الأعلى. كذلك فإن صفقة بيع «آراب ديرى» شهدت تنافسا ساخناً دار بين شركات خليجية وأوروبية ومصرية قبل ان تحسم لصالح «بايونيرز». الواضح والمؤكد أن سوق الغذاء المصرى مغرى جدا لأى شركة عالمية، لكن هل يحمل ذلك مخاطر على الاقتصاد المصرى؟ وهل تستفيد الصناعة المحلية من دخول الأجانب، وإلى أى مدى؟ القراءة السريعة تقول إن تسرُب الاجانب إلى سوق الغذاء المصرى قديم ويرجع لمنتصف التسعينيات من القرن الماضى. لقد بدأ المسلسل بخصخصة بعض الشركات الحكومية مثل «الأهرام للمشروبات» المنتج الوحيد للبيرة والتى استحوذت عليها شركة الجونة قبل أن تبيعها إلى شركة «هينكين العالمية». وجرت بعد ذلك عملية استحواذ شركة «هيرو» السويسرية على شركة «فيتراك» الخاصة والمنتجة للمربى. أما الآيس كريم فتم السيطرة على القطاع سريعا بعد قيام شركة نستلة بالاستحواذ على كافة الشركات المصرية المنتجة للآيس كريم. وقبل سنوات قليلة قامت شركة المراعى السعودية بالدخول إلى سوق الألبان المصرى عن طريق الاستحواذ على شركة «بيتى». كما دخلت شركة «صافولا» إلى أسواق السكر والزيوت فى مصر قبل أن تستحوذ على شركتى «الملكة» و«الفراشة» فى مجال صناعة المكرونة. ويمكن القول إن أهم اللاعبين فى سوق الغذاء المصرى حاليا ينتمون إلى الولاياتالمتحدة، السعودية، الإمارات، والكويت، وبريطانيا. تفسير القضية يحتاج شهادات لذا فإن الشهادة التى يقدمها مختار الجمل رئيس الشركة المصرية السويسرية للأغذية ل «الوفد» تستحق العرض. يقول مختار الجمل إن الاستثمار فى مصر شهد على مدى السنوات الخمس الأخيرة دخولا منظما من جانب كثير من الشركات العالمية إلى قطاعى الصناعات الغذائية والقطاع الصحى باعتبارهما القطاعين الوحيدين الذين أفلتا من تأثيرات 25 يناير السلبية. ويشرح ذلك مشيرا غلى ان مصر تعد سوقا سكانيا ضخما يضم 90 مليون مستهلك وأى مستثمر يدخل إليه يضمن مبيعاته وأرباحه خاصة فى قطاع الأغذية. لكن لماذا لا يستثمر المستثمر الاجنبى فى مشروع غذائى جديد ويفضل شراء شركة قائمة ؟ يجيب مختار الجمل بأن ذلك افضل كثيرا من إهدار الجهد والوقت والمال فى السعى وراء تراخيص وموافقات وأوراق قد تتعطل بسبب بيروقراطية الأجهزة الحكومية. وفى تصوره فإن عمليات البيع تتم فى الغالب لشركات عائلية تنتقل إلى الجيل الثانى الذى غالبا ما يفضل توزيع الملكية. وفى تصوره فإن الأمر فى حاجة إلى ضوابط من الدولة لأنه ليس منطقيا ان تفتح كافة القطاعات الغذائية امام المستثمرين الأجانب دون رقيب، ويقترح أن تحدد القطاعات التى تعد استراتيجية وحيوية ويتم منع بيع الأسهم فى البورصة للأجانب، مؤكدا أن ذلك يتم فى كثير من دول العالم. ويؤكد «الجمل» الذى قام بزيادة رأسمال شركته من خلال مشاركو صندوق استثمار عالمى أن هناك بدائل عديدة لتطوير الإنتاج وزيادة رأس المال والاستعانة بتكنولوجيات أحدث ومعدات أكثر تطورا. ويقول إن توغل الأجانب داخل قطاع الصناعات الغذائية يثير القلق، لكن سيطرة الأجانب على قطاع التوزيع والتجارة الداخلية يثير القلق بشكل اكبر. نفس القلق ينتاب الدكتور يسرى الهوارى رئيس شعبة صناعة الأرز السابق والذى يرى إن عمليات بيع الشركات الأجنبية يجب ان تخضع لقواعد وضوابط محددة. ويؤكد أن كثير من الدول المتقدمة تمنع سيطرة مستثمرين غير وطنيين على قطاعات بعينها خاصة ولو كان حصة الشركة المباعة كبيرة مثلما جرى فى صناعة البسكويت أو مشروب البيرة. وفى رأى الدكتور مصطفى الرفاعى وزير الصناعة الأسبق فإن دخول الشركات العالمية برؤوس أموالها الضخمة ساعد على اغلاق عشرات الشركات المصرية التى لم تستطع الاستمرار فى المنافسة، وهو ما مكن الشركات الأجنبية من التحكم فى الأسعار. على الجانب الآخر يرى جمال محرم رئيس غرفة التجارة الأمريكية السابق بالقاهرة واحد خبراء الاقتصاد أن فكرة سيطرة دول ما على اقتصاديات دول أخرى من خلال شركات بعينها انتهت لأن «البزنس» الآن يستهدف الربح والربح فقط. ويتساءل الرجل إن كانت الشركات التى قامت بشرا «بسكو مصر» او «ماس فوود» أو غيرها من الشركات تستطيع تفكيك المصانع والأرض وتُبعدها خارج البلاد، مؤكدا أن أى استثمار جديد هو خير للاقتصاد لأنه يوفر فرص عمل جديدة ويقدم خبرات أخرى ويساهم فى تقوية المنافسة لصالح المستهلك. ويرى جمال محرم أن الشركات العالمية تفضل شراء شركات قائمة للهروب من ورطة البيروقراطية التى مازالت تحكم بيئة الاستثمار لأن دخوله إلى صفوف طالبى التراخيص والموافقات قد يهدر كثير من الوقت. نفس الرأى يقدمه المهندس طارق توفيق وكيل اتحاد الصناعات المصرية الذى يرى أن الشركات الأجنبية المستثمرة فى مصر ساهمت فى نقل تكنولوجيات حديثة، وتطوير أنظمة الإنتاج والتسويق والتوظيف، وشجعت المصانع المصرية على تحسين منتجاتها وتطوير نُظمها.