«الليل جدار.. إذا يدن الديك من عليه.. يطلع نهار»، بهذه الكلمات افتتح الشاعر عبدالرحمن الأبنودي، ديوانه الأول «الأرض والعيال»، الذي أعلن ميلاد شاعر، يغرد باللهجة العامية، وسط تسيد شعر الفصحي بأباطرته من كبار شعراء القرن العشرين.كلمات الأبنودي وأبياته التي اعتمدت علي التصوير، من خلال استلهام مفردات بيئته الجنوبية، جعلت له خصوصية تحولت مع الوقت لقاعدة انطلاق نحو نجومية لا للأبنودي فقط، ولكن لقصيدة العامية أيضاً، مع ندرة الأسماء الكبيرة في هذا المجال. فمنذ بيرم التونسي وبديع خيري وعبدالحميد الديب، لم تتحقق نجومية لقصيدة العامية وشعرائها، إلا مع أسماء محدودة مثل عبدالرحمن الأبنودي، وصلاح جاهين، وفؤاد حداد الذي كتب فيه «الأبنودي» قصيدة مطلعها «إنت الإمام الكبير وأصلنا الجامع.. وانت الوحيد اللي نرضي نصلي وراه في الجامع»، وهو اعتراف بتجاوز فؤاد حداد، وتسيده لهذه المرحلة، وتعبير عن تواضع شاعر حظي بجماهيرية فاقت الإمام فؤاد حداد، الذي تعرض لبطش النظام الحاكم، واقتصرت جماهيريته علي طائفة المثقفين. وعلي العكس منه، اختار «الأبنودي» طين الأرض، وخاطب البسطاء، ولم يعادي نظاماً أو ينتقده، بل ساند كل المشروعات الوطنية، بداية من ثورة يوليو ومشروع السد العالي، الذي وثقه «بجوابات حراجي القط»، ومروراً بنكسة يونيو «وبلدنا ع الترعة بتغسل شعرها جالها نهار مقدرش يدفع مهرها» في «عدي النهار»، وانتصار أكتوبر الذي بقي حاضراً في ذهن الأبنودي بما قدمه عقب النصر من أغنيات وقصائد، مثل «أحلف بسماها وبترابها»، و«ابنك يقولك يا بطل هاتلي انتصار»، وبعد عشرات السنين يعود ليبحث عن جيل أكتوبر، ويقدم في 2008 قصيدة «الاسم المشطوب» التي انتقدت نظاماً ترك صائد الدبابات في حرب 73 محمد عبدالعاطي، يموت بفيروس سي. وفي ثورة يناير انحاز الأبنودي لشباب الثورة، وأطلق قصيدته «الميدان» التي طافت ميادين مصر، وأنست ثوارها في نضالهم ضد نظام مبارك، ومع ثورة 30 يونية وما تبعها من مشروعات قومية، أهمها مشروع حفر قناة السويس الجديدة، عمل الأبنودي مع المطرب محمد منير، علي إنتاج صورة غنائية توثق لهذا المشروع علي غرار مشروعه في جوابات حراجي القط، ولكنها لم تخرج للنور. الأبنودي لم يكن مجرد شاعر، بل كان بمثابة نقطة تحول في القصيدة العامية، مع تمسكه بتراثه الجنوبي القديم، بداية من حكايات وأغاني والدته فاطمة قنديل، المرأة البسيطة التي أرضعت وليدها الحياة ممزوجة بأغاني العديد والحداء والأفراح، فكان بمثابة مرجع للفن الشعبي الأصيل، دفعه مثلاً لكتابة حوار فيلم مثل «الطوق والأسورة»، وحوار وأغنيات فيلم «شيء من الخوف»، وهو ما يجعل الأبنودي حجر أساس للفنون الشعبية في الجنوب، وهو ما دفعه بعد سنوات طويلة للعودة إلي منشدي التراث القديم والبحث عن «السيرة الهلالية» وجمعها من صدور العامة والمنشدين وتوثيقها، كجزء أصيل من التراث الشعبي المصري، كما قام الابنودي بالمشاركة في عشرات الحفلات، مع المنشد سيد الضوي أحد أهم رواة السيرة الهلالية، لتعريف الناس بهذا الجانب من التراث المصري والإنساني قبل اندثاره. كثيرة هي الأصوات التي تغنت بكلمات الأبنودي، الذي لم ينحاز لجيل دون الآخر، ولم يتعالي علي شباب المطربين، فقدم اهم أغنيات محمد رشدي ثم عبد الحليم حافظ وفايزة أحمد ونجاة وشادية وصباح ووردة ومن ابرز مطربي الجيل التالي الذين حرصوا علي النهل من نبع الأبنودي المطرب محمد منير الذي قدم عشرات الاعمال من تأليفه، والأمر نفسه بالنسبة للمطرب علي الحجار الذي ارتبط اسمه بالأبنودي في كثير من الاعمال سواء في ألبوماته أو من خلال أغنيات الدراما التليفزيونية، كما تعامل مع ماجدة الرومي ومحمد الحلو ومروان خوري. الأبنودي قدم قصيدة عامية وأغنيات شعبية، تداولتها النخبة والمثقفين، وأصبحت شاهداً علي عصور من تاريخ مصر الحديث، فالأبنودي ظاهرة، جعلته أول شاعر للقصيدة العامية يحصل علي جائزة الدولة التقديرية في عام 2001، وهو اعتراف بتفرده مهما اختلفت الأراء حوله، فالأبنودي مزيج من الشعراء في شاعر واحد فهو في ديوان «الأرض والعيال» يختلف عنه في «صمت الجرس»، وهو في «الموت علي الأسفلت» مغاير عن «وجوه علي الشط»، كما تباينت أغنياته من فترة الستينات لفترة الثمانينيات والتسعينيات، ولكنها احتفظت بأصالتها وما نهلته من طين الأرض وسمرتها، رحم الله الأبنودي ابن فاطمة قنديل فقد كان كما يقول «شاب عريان البدن ودراعاته مكشوفين.. وانتى عينكى اسمروا من شيل الحنين.. ولأنهم متكحلين بشيء حزين.. بشيء فى كل عيون صحابى الطيبين.. اللى فى عينيهم انتظار.. والليل جدار.. اذا يدن الديك من عليه يطلع النهار».