ليست هذه إسكندريتنا التي ولدنا فيها في الثلاثينيات وأمضينا فيها الطفولة الجميلة والصبا والشباب الذي قضينا بعضا منه في قواتنا البحرية في حرب أكتوبر 1956 وكنا نصحو في الصباح الباكر جريا الي الدش البارد والطابور السريع حول المعسكر دون الشعور بالتعب أو الوهن وإنما قوة وفتوة متدفقة تدفق أمواج بحرنا الذي تمتعنا به في كل تلك المراحل دون تلوث في البيئة فمياه شواطئها رائعة نظيفة والكورنيش الرائع من المنتزه حتي رأس التين تتيه فيه عربات الحنطور عجبا بمنظر الأمواج المصاحبة لها من اليمين والعمارات فائقة الذوق والجمال في الشمال كما بناها الخواجات الذين استقروا بها وعمرّوها وأنشأوا بها أول مجلس بلدي بمصر كلها وكان ذلك سر تشابهها مع المدن الساحلية الأوروبية.. فالمدينة تحتضن البحر فاتحة له ذراعيها من المنتزه مع براح صدرها علي شواطئ سيدي بشر وميامي وستانلي والشاطبي حتي قلعة قايتباي.. ويا حلاوة المشي علي الكورنيش في العصاري وعند غروب الشمس وانتهاء المشوار عند بيوتنا مع إحساس جميل بالانتعاش والراحة ولمسة علي الشفاة.. حلوة يا بلدي! وكانت بلدية الإسكندرية تسهر علي نظافة وجمال ورونق المدينة إذ كنا نري عربات الرش تطوف شوارعها لغسلها فيصبح الأسفلت لامعا وزاد علي ذلك عربات تغسل الرصيف بالخراطيم كل ليلة دون انقطاع حتي قال عنها الخواجات.. إسكندرية مارية.. وهي عبارة كررها لنا أهل اليونان عندما نزلنا عندهم في ميناء بيريه علي مشارف العاصمة أثينا.. ودخلنا سوق بيريه لشراء بعض الحلويات وكنا ندخل المحل ونتكلم بالانجليزية أو الفرنسية وإذ بكل أصحاب المحلات يتكلمون العربية وأنهم كانوا يعيشون بالإسكندرية التي ولدوا بها وعمرّوها بالمصانع والمحلات التجارية المشهورة بأسمائهم بل والأحياء التي تحمل شوارعها الأسماء اليوناينة مثل حي الإبراهيمية وغيره.. ثم أُجبروا علي الرحيل منها - كما يقولون بحسرة - بعد العدوان الثلاثي عام 1956. نعيد هذه القصة كلها بعد أن هان حال الإسكندرية وأصبحت كما تري كل الأعين مليئة بأكوام الزبالة.. وكانت شركة فرنسية تتولي جمع الزبالة من المدينة فكانت نظيفة ثم لا ندري لماذا سرحوا تلك الشركة وحلت محلها شركة المقاولون العرب لفترة وجيزة، ثم كفت عرباتها عن جميع زبالة الشوارع التي اضطر الناس لإلقائها عند كل ناحية أو جدران مدرسة وزاد الطين بلة أن فرقة من المشردين الباحثين في أكوام الزبالة تنكشها وتفرشها علي الأرض أكثر فأكثر في منظر كئيب يقابلك صباحا وظهرا ومساء مع أكوام هائلة من الذباب. ويزيد هموم أهل الإسكندرية تلك الأبراج العالية التي زادت وفاضت بمصائبها علي المدينة.. فقد كانت العمارات قبل ثورة 25 يناير تحت رقابة المجلس المحلي والمهندسين الذين يمرون في شوارع الأحياء ويضبطون العمارات المخالفة للتراخيص وكنا نشاهد معدات الحي تتحرك لهدم الأدوار المخالفة لتصريح البناء والذي كان يصدر بعدد من الأدوار لا يزيد علي عشرة فإذ بنا نفاجأ منذ تلك الثورة حالة فوضي عامة في الهدم والبناء، فالسماسرة والمقاولون أصابتهم حمي الاستيلاء علي الڤيلات والمباني القديمة وهدمها وبناء العمارات العالية حتي عشرين طابقا دون الحصول علي ترخيص قانوني بتلك الارتفاعات التي تحمل المخاطر من انهيارها فضلا عن الإضرار بباقي المساكن بعد حرمانها من ضوء الشمس والتضييق عليها في الهواء. مناظر كئيبة بعشرات الآلاف من الأبراج التي يبدأ معظمها ببناء زاوية في الدور الأرضي ثم يرتفع فوقها البناء لسبعة عشر أو ثمانية أو تسعة عشر أو حتي عشرين طابقا ويزيد بكل ما تحمل من ثقل وعبء كبير علي الأرض والمرافق من صرف صحي ومياه وكهرباء وازدحام رهيب في وسط المدن قبل أطرافها. ليست هذه إسكندريتنا نحن السكندريين الأصلاء، وكدنا نصبح فيها غرباء ولن نعود من غربتنا حتي يعود القانون من إجازته وتعود المجالس المحلية النزيهة للعمل وتضع حدا للتتار «الجديد».. أصحاب الأبراج المخالفة للقانون.