هذه السطور غير بريئة، لك أن تتفق معي فيها أو لا تتفق فأنت حر بقدر ما أنا كذلك، وهي تنحاز لموقف محدد، وتسعى لأن تساهم في حسم مستقبل معركة فكرية مقبلة مبكرا بدأت ملامحها في الأفق حول فيلم نوح الذي من المفترض بدء عرضه بدور السينما المصرية 26 مارس الجاري. وموقفي في هذا الصدد ينطلق من أننا في زمن العولمة لا يجب أن ننطلق من فكر زمن سيدنا نوح عليه أفضل الصلاة والسلام، وأننا نحن العرب والمسلمين، يجب أن نتعامل مع هذه العولمة بفكر منفتح ينطلق من أسس ديننا دون إفراط أو تفريط. وبشكل مبدئي أؤكد أن ما تناثر من مواقف هنا وهناك حول الفيلم قد يكون فيه تلخيص لأسباب تخلفنا عن الأمم الأخرى وغياب الأمل في إمكانية تقدمنا إذا أصررنا على ذلك المنطق الذي يحكم تفكيرنا.. التحريم ثم التحريم ثم التحريم. ورغم أن الكثير من مفكرينا العرب والمسلمين أعيوا أنفسهم في محاولة الإجابة عن السؤال الذي طرحه شكيب أرسلان القرن قبل الماضي حول لماذا تقدم الغرب وتأخر المسلمون، إلا أن الإجابة قد تبدو بسيطة وتتمثل في حرية الفكر والإبداع ورفع القيود عما يسد الآفاق أمام العقل العربي .. تلك هي الفضيلة الغائبة في محيطنا العربي والإسلامي وآخر تجلياتها ملامح الأزمة حول فيلم «نوح». وإذا سألتني عن سر هذه اللغة الحاسمة التي أسوق بها كلماتي أقول لك لقد لمست الأزمة لدى وتراً حساساً.. صحيح أنها تجربة شخصية لكنها معبرة. فقد كنت في مرحلة مبكرة من حياتي مدمن أفلام مثل مدمن المخدرات بالضبط.. أذهب إلى سينما مسرة صباح الإثنين حيث يتم بدء تغيير الأفلام – وليس الأربعاء كما الآن – ولا أخرج سوى بعد العصر بعد مشاهدة ثلاثة أفلام وإعادة للفيلم الأول .. كنت أخرج من السينما أتحسس طريقي لعدم قدرتي على الرؤية بعد ساعات في الظلام الدامس مع الشاشة، شاهدت كل نوعيات الأفلام .. وكان الأكثر تأثيرا بالنسبة لي بعض الأفلام الأجنبية التي حملت مضمونا فلسفيا حول معنى الحياة ما عزز لدى مفاهيم الإيمان ونظرتي الدينية.. الحد الذي يمكنني القول معه إنه رغم أنني مسلم بالفطرة إلا أنني دخلت الإسلام عن طريق المسيحية! السينما، في نظري، ليست وسيلة ترفيه فقط، وإنما هي ناقلة لمفاهيم وأفكار وحياة ويمكنها تعزيز القيم والمعاني الإيجابية – والسلبية كذلك - والمثل الذي أسوقه يعزز هذه الفكرة، في تلك الفترة المبكرة - النصف الثاني من سبعينات القرن الماضي - تعززت قراءاتي خاصة الدينية وكان من بين ما قرأته وترك أكبر الأثر في نفسي كتاب «في رحاب الأنبياء والرسل» للراحل الدكتور عبد الحليم محمود الذي صدر عن كتاب اليوم، إن لم تخني الذاكرة، واشتريته بمجرد صدوره .. قدم شيخنا هذه القصص – من وجهة نظري – بصورة عصرية تتجاوز ما قد يكون قدمه القدماء أمثال ابن كثير وغيره.. عشت مع هذه القصص وتصورت أنني أشاهدها على شاشة سينما.. رغم تعدد هذه القصص وروعتها فقد كان من بين أكثر ما استوقفني قصة سيدنا نوح، والتي تمنيت وقتها، وأنا صبي لم أتجاوز الخامسة عشرة من العمر، لو تم تصويرها في فيلم يعزز المعاني العظيمة والآيات التي تعكسها. من فرط ولعي بقصة سيدنا نوح وقيم الخلاص التي تعكسها - حتى ولو برؤى صبي في مقتبل العمر - إنه كان يحلو لي اصطحاب الراديو الترانزستور إلى كورنيش روض الفرج حيث الفضاء الرحب والتأمل في مياه النيل، وأستمع وحدي لصوت الطبلاوي وهو يردد آياتها ومن بينها «يا بني اركب معنا ولا تكن مع الخاسرين». كنت أتمنى لو كانت هناك آلة العودة إلى الزمن لمتابعة ذلك المشهد الرهيب الذي صورته كلمات القرآن البليغة. بعيدا عن هذه التجربة الشخصية فإن الأمر الأساسي في القضية التي نحن بصددها هو ضرورة إعادة النظر في مبدأ تحريم ظهور الأنبياء والرسل والصحابة في الأعمال السينمائية ومسائلة هذا المبدأ وحكمته، لقد جاء الإسلام في مرحلة معينة من مسيرة العقل البشري وحرم - مثلا - التماثيل غير أن ما وصل إليه هذا العقل من تطور يجعل الأسباب التي على أساسها هذا التحريم غير قائمة، وهو ما يجب معه أن تختلف نظرتنا للتماثيل عن تلك التي كان عليها المسلمون في عصورهم الأولى. ما أريد قوله هو ضرورة تغيير النظر إلى الأحكام البشرية المقدسة وليس النصوص المقدسة، وهو المبدأ الذي ينسحب على تحريم ظهور الأنبياء. إن هذه النظرات تصب في صلب مفهوم الاجتهاد الذي أجمع العلماء على أن إغلاق، كان السبب فيما آل إليه حال المسلمين من تخلف. وإلا فبالله عليك قل لي ماذا بقي لديك من أداء ميل جيبسون في «آلام المسيح» ؟ هل ما زالت شخصية المسيح مرتبطة بشخص الممثل أم بما حاول الفيلم أن يقدمه على أنه قيم ومبادئ كان المسيح انعكاسا لها؟ وأين الفيلم الآن رغم كل الضجة التي أثيرت بشأنه؟ إن الإيمان جزء من تكوين الإنسان جبل عليه بالفطرة وسيبقى على هذا النحو إلى قيام الساعة مهما تعددت أشكال ممارساته ورؤاه الدينية سواء كان المرء يهوديا أم مسيحيا أم مسلما.. وعلى ذلك فليس هناك خوف على إسلامنا من فيلم.. إن لم يعزز إيماننا فلن يقوضه. أرجوكم أرفعوا الغطاء عن العقل حتى ننطلق .. فقد طال بنا الرقاد!