التحولات السياسية الكبرى التي تشهدها مصر ليست أحداثاً سياسية عابرة، وليست مجرد حتى ثورة أو ثورتين أو مجرد حشود جماهيرية تملأ الميادين والشوارع، وليست سباقاً بين من يملك جماهير أكثر، إنها أكثر من ثورة وأكبر من انقلاب ومن مليونيات، ولو أن هذه التحولات عصفت بدولة أخرى لأدّت إلى ذوبانها وفقدانها هويتها . إنها تحولات تتعلق بمصر كدولة ومكانة وحضارة وهوية، ولعل جسامة هذه التحولات أنها أسقطت نظامين للحكم ما كان أحد يمكن أن يتصور سقوطهما، خصوصاً حكم الإخوان المسلمين الذي لم يتجاوز سنة واحدة . ولعل السبب الرئيسي في هذا السقوط، إلى جانب أسباب كثيرة، عدم فهم واستيعاب مصر كحقيقة تاريخية ومكانية وبشرية . من هنا ما تشهد مصر تداعياته ونتائجه تتجاوز حدود الحدث نفسه، وعنصر الزمن الذي يقع فيه . ولا يمكن فهم هذه التحولات إلا في سياق خصوصية الحالة المصرية كهوية مركبة وشاملة انصهرت في بوتقة الزمان والمكان اللذين تجسدهما مصر، وفي خصوصية الدور الوطني الذي يلعبه الجيش المصري في النسيج السياسي والمجتمعي المصري أيضاً . ولولا هذا الدور لتحولت الأحداث إلى حالة من الحرب الأهلية، والفتنة الطائفية التي تسعى لها قوى إقليمية ودولية كثيرة، لأنه من دون الدور المصري لن يكون هناك دور عربي أو إسلامي . مصر هي القاعدة والمركز للنظام العربي والإسلامي، وفي ضوء ذلك، فإن التفسيرات التي تتكلم عن توصيف الحالة بالانقلاب تتجاهل هذه الخصوصية والحالة المصرية وعلاقتها بالجيش المصري . وفي السياق نفسه، تثار العلاقة بين الدستور ومصر، فالأساس هو مصر، والاستثناء هو الدستور . ووضع دستور لمصر في هذه المرحلة يعد تحدياً كبيراً في مرحلة التحول وبناء الدولة المصرية الحديثة، مصر كانت من أولى الدول البرلمانية، وغنية بتراثها الدستوري، ولا تعجز عن وضع دستور بكل المقاييس الديمقراطية، لكن الحالة الانتقالية والاستثنائية أوجدتها حالة ثورتين، وسقوط نظامين للحكم، خصوصاً حكم الإخوان المسلمين، وما تبع ذلك من حالة عنف وإرهاب ينتشر في ربوع مصر، وبالذات في سيناء وهدفه الأول هو إنهاك قدرات الجيش والأمن ومن ثم مصر كدولة . ولذلك هذا الدستور استثنائي في ظروف وضعه، وفي الهدف منه، ولعل السبيل للرد على هذا العنف والإرهاب، وإسقاط كل الرهانات والمقولات التي قد تذهب بعيداً في التخيل بإمكانية حدوث انقلاب داخلي، ومن ثم إجهاض ليس دور الجيش، بل مصر كدولة، هو إنجاز الدستور الذي صاغته لجنة الخمسين بالتوافق، وقد لا يرقى إلى مستوى التوافق الكامل، ولكنه بلا شك يعتبر دستور دولة، مقارنة بدستور 2012 الذي أعطى سلطات كبيرة للرئيس، وفصّل على مقاس الجماعة ولذلك هو دستور جماعة وليس دستور دولة . مصر في حاجة إلى دستور دولة وليس إلى دستور جماعة، والدستور الأخير يعد نواة لدستور الدولة . ولذلك فأول خطوة في مرحلة التحول الديمقراطي، وهي مرحلة مصيرية وتترتب عليها نتائج كثيرة، هي النجاح في الاستفتاء على هذا الدستور والتصويت له بنعم، وبنسبة أعلى من الدستور السابق، لأن أساس هذا النجاح الذهاب إلى المرحلة الثانية من خريطة التحول السياسي الديمقراطي، ولا بديل إلا بالتصويت بنعم على هذا الدستور . وإذا كان من معارضة للدستور فهي من "الإخوان" بالدرجة الأولى، لأنه يتعارض مع مصالحها كجماعة وليس كدولة . وفي الوقت ذاته التصويت بنعم يعني أن أكبر الخاسرين هم الإخوان الذين أخرجوا أنفسهم من العملية السياسية في مصر، والشرعية السياسية الجديدة، ولو أنهم دخلوا فيها لخرجوا محققين مكاسب أفضل من بقائهم خارج إطار الشرعية التي يحدد معالمها الدستور الجديد . وقد تعترض بعض القوى الثورية والمدنية على بعض نصوص الدستور، وخصوصاً ما يتعلق منها بالعلاقة بين المؤسسة السياسية والمؤسسة العسكرية، وحتمية تبعية الأخيرة للأولى كإحدى ركائز الدولة المدنية، لكنهم يتجاهلون أنها مرحلة تحول، ومرحلة استثنائية ومن ثم الدستور نفسه استثنائي، وليست نصوصه مقدسة وغير قابلة للتعديل . الأمر لا يختلف عن الحالة المصرية، الدستور الحالي قد لا يلقى التوافق التام، وفيه مواد تحتاج للتعديل، لكن الأهم في هذه المرحلة ليس التعديل، بل النجاح في إتمام خريطة التحول الديمقراطي بالانتخابات البرلمانية والرئاسية . وهنا ليس المهم الدخول في جدل نظام رئاسي أم برلماني، الحالة الاستثنائية تستوجب الرئاسية أولاً لأن نجاح هذه الانتخابات يعني سقوط الرهان نهائياً بعودة الدكتور مرسي إلى الحكم ثانية، ومن ثم سقوط كل الرهان على فشل الثورة المصرية وأهدافها . الأمر ذاته ينطبق على شخص الرئيس، هل يكون الفريق السيسي؟ الاعتراض الوحيد أنه عسكري، لكن المرحلة الحالية تستوجب شخصية مثل الفريق السيسي الذي تتوفر لديه صفات الزعامة الشعبية والكارزمية، والقدرة على مواجهة التحديات . ولا ننسى أنه في حالة تطبيق هذا الخيار فهو لا يحكم بمفرده، بل في ظل بيئة سياسية ثورية هو الأقدر على استيعاب معطياتها، وبغير ذلك ستكون النتيجة ارتدادية، وقد تدخل مصر كلها في مرحلة من الفوضى لا أحد يستطيع أن يتحكم في نتائجها . نجاح مصر الديمقراطية هو الرد الطبيعي على حالة العنف، واستعادة دورها ومكانتها الإقليمية والدولية في عالم تحكمه القوة، وأول خطوة في هذا الطريق هو بالتصويت على هذا الدستور بنعم . نقلا عن صحيفة الخليج