الحكومة المصرية لا تؤمن بأهمية البحث العلمي وتصر علي أن تكون مخصصاته المالية متدنية بشكل لا يساعد علي مناخ علمي سليم، فميزانية البحث العلمي تقدر بحوالي 2 مليار جنيه يذهب معظمها إلي رواتب الباحثين والإداريين ومصر هي أقل دول العالم إنفاقًا علي البحث العلمي 0.2٪ من إجمالي الدخل القومي في حين تنفق الدول النامية 1٪ من دخلها القومي وتخصص إسرائيل 3٪ من ناتجها القومي للبحث. والواقع الأليم يؤكد أن نظم البحث العلمي والاستراتيجية القائمة علي تطويره أصبحت عاملا. طاردا للعقول التي لها أسلوب تفكير يهدف إلي تحديد المشكلات وتحليل جوانبها وإيجاد حلول لها والتحقق من صحة الحلول جزئيا وكليا، وبالتالي تسهم في تنمية مجتمعها. والآن بات ملف البحث العلمي من الملفات الملحة علي المجتمع المصري بعد ثورة 25 يناير إذا أردنا أن نلحق سريعا بقطار العلم الذي تأخر وصوله طويلاً علي رصيف التنمية والتقدم في مصر. وعلاج البحث العلمي يتمثل في عدة عوامل منها اقتصار البعثات علي التخصصات التطبيقية مثل الطبيعة والكيمياء وعلوم الحياة، لأن هذه التخصصات لها الأولوية علي المواد النظرية، خاصة أن مصر بها كفايات في العلوم النظرية والتاريخ والجغرافيا والفلسفة؛ كذلك لابد من زيادة ميزانية البحث العلمي بحيث تكون أضعاف الحالية، وهذا ما حدث في بلدان عديدة مثل روسيا وأمريكا والدول الأوروبية. فليس من المعقول أو المقبول أن تقف الميزانية حجر عثرة في سبيل التطبيقات العلمية كما يحدث الآن ونسمع عن اكتشافات علمية هائلة ومخترعات عظيمة لا تطبق بسبب نقص الإمكانات المادية؛ أيضا مطلوب مجلة متخصصة محترمة واسعة الانتشار ينشر بها نتائج البحوث العلمية التي توصل إليها العلماء في مختلف المجالات، وكذلك الفوائد المتوقعة منها بحيث يتم التطبيق التدريجي لهذه الأبحاث بما يناسب صالح الشعب المصري، وتنويع البعثات شيء ضروري؛ فلماذا لا تضاف الدول التي سبقتنا ولها خبرة كبيرة في مجال البحث العلمي أين اليابان وكوريا والصين من بعثاتنا العلمية؟ ورعاية العلماء رعاية شاملة تخدم البحث العلمي بلا شك وأقترح أن تخصص لهم مدينة علمية مستقلة يتفرغون فيها للبحوث وتطبيقاتها والمخترعات كما فعلت روسيا في زمن جورباتشوف. والحقيقة ايضا أن البحث العلمي في مصر تبلغ نسبته داخل الجامعات المصرية 70٪، وهذا يعني أنه يمثل قوة ضاربة حقيقية، يمكن تعديلها وتطويرها والبناء عليها لكن هذا البحث الذي يدور أولا حول موضوعات الماجستير والدكتوراة، لا يحقق نتائج ملموسة للمجتمع، ويرجع ذلك إلي عاملين: الأول انصراف أساتذة الدراسات العليا عن المشكلات الحقيقية وتقديم حلول قابلة لتنفيذها، والثاني الضعف الشديد في تمويل هذه البحوث ومكافأة القائمين عليها بالصورة المناسبة. ويكفي مثلا أن نعلم أن مكافأة المشرف علي رسالة الدكتوراة لا تتجاوز الخمسمائة جنيه، والماجستير ثلاثمائة جنيه وكل منها يتطلب جهدا بالغا، ووقتا قد يصل إلي ثلاث وأربع أو خمس سنوات، أما مناقشة كل منها فلا تزيد علي مائة جنيه، ويستغرق المناقش في قراءة البحث «من 300 – 500 صفحة» حوالي أسبوعين أو ثلاثة، وتستمر جلسة المناقشة من ثلاث إلي خمس ساعات فهل هذا معقول أو مقبول؟ وفي تقديري أنه علي الرغم من تفاهة المقابل المادي فإن الكثير من الأساتذة المحترمين يقومون بهذا العمل حرصا علي مصلحة الطلاب من ناحية وتحقيقا لرغبة نفسية والتزام أخلاقي من ناحية أخري. فإذا ارتفعنا من هذا الواقع الهابط إلي مستوي أعلي، فوجئنا بغياب استراتيجية محددة للبحث العلمي داخل الجامعات أو ترك الأمور للمبادرات الشخصية وجهات التمويل الخارجية التي تختار أبحاثا بعينها، وترفض أبحاثا أخري قد تكون أكثر أهمية لحل مشكلات المجتمع المصري، أضف إلي ذلك كارثة تكرار مراكز البحوث في جامعاتنا، وتبديد جهودها الصغيرة بدلا من تجميع المتشابه فيها في مركز واحد يكون أكثر قوة وكفاءة.. وبعد ذلك كله يأتي من يتساءل.. هل لدي الدولة بالفعل رغبة حقيقية وإرادة سياسية في تطوير البحث العلمي داخل الجامعات وخارجها. ومعوقات البحث العلمي كثيرة منها الإدارة والتمويل ومستوي البحث العلمي والعمل الفردي، فالإدارة أصبحت الآن علما منفردا ولازمة لأي مشروع ناجح؛ كما ينبغي علي من يدير عملية البحث العلمي أن يكون مؤهلا لذلك، ولابد من مشاركة الهيئات والشركات في تمويل مشروعات البحث العلمي وعليها أن تعلم جيدا أنها المستفيد الأول منها؛ فقد كان هناك تعاون رائع بين هيئة كهرباء مصر وكلية الهندسة بجامعة عين شمس لحل بعض المشكلات، وذلك علي سبيل المثال، أما عن مستوي البحوث، فالبحث الجاد يفرض نفسه دائما ويحترمه العالم ونعرف ذلك من الموافقة علي نشره في المجلات العلمية المحترمة وليس شرطا أن يعالج مشكلة عالمية، والدولة مسئولة بعد ذلك عن تطبيق هذه البحوث والاستفادة منها، ولكن الواقع يؤكد أن الدولة لا تهتم بالبحث العلمي وكذلك المجتمع فيجد الباحث نفسه محاصرا بالإحباط وعدم الاستطاعة المادية فيفقد الأمل وتنخفض معنوياته ويضيع البحث العلمي.