النسيج الدرامى لأى عمل فنى هو اللبنة الاولى؛ التى يبنى عليها صرح الدراما ؛وكلما كان هذا النسيج متماسكا، ويطبق عليه شروط ومواصفات خلق عمل فنى مميز؛ كلما كان البناء قادرا على الاستمرار والتواصل مع الناس فى كل يوم ولاينهار؛ ويتحول الى انقاض فنية مع استمرار الحلقات؛ وهى سمة للأسف للكثير من الأعمال الرمضانية التى تكون البدايات لاتشير أبدا إلى ماسيطرحه مبدعى العمل مع استمرار الحلقات. ومسلسل "أولاد ناس" من الاعمال الرمضانية القليلة التى كانت البدايات المبشرة تشير بكل قوة إلى عمل أثبت وجوده ؛ وتضافرت عناصره الإبداعية ليؤكد فى كل يوم أنك أمام مسلسل يستحق المشاهدة. مسلسل "ولاد ناس" بطولة رانيا فريد شوقي، صبري فواز، وفاء صادق، أحمد وفيق، بيومي فؤاد، إيهاب فهمي، لقاء سويدان، أحمد صيام، وصفاء الطوخي، وتأليف وإخراج هاني كمال وإنتاج منى قطب وإبراهيم حمودة. "ولاد ناس" عمل يعزف على وترين أساسين الأول استعراض لأزمات ومشاكل مجتمعية نعيشها فى حياتنا اليومية؛ والثانى كيفية أن الألم كيف يمكن ان يطهر ويجعل الانسان يقف امام ذاته ليرى نفسه بوضوح؛ ولكن هذا بالطبع لايحدث لكل البشر فهناك من هم سيستمرون فى ظلمهم لأنفسهم والمجتمع؛ بل أن التجربة التى يتعرضون لها تزيدهم تكبرا وطغيانا والنموذج الأمثل لهم شخصية مديرة المدرسة والتى أدت دورها بأقتدار صفاء الطوخى. وفى الحقيقة أن السيناريو رسم شخصيتها بوضوح مع باقى أبطال المسلسل خلال الحلقتين الأولى والثانية من المسلسل التى عاد بهماالمخرج لقبل حادث انقلاب الأتوبيس بعدة ساعات؛ مستخدما أسلوب الفلاش باك؛ لنتعرف عن قرب عن السخصيات وتركيبتها الانسانية والاجتماعية؛ التى ستفسر تصرفاتها فى باقى أحداث العمل؛ فحادث انقلاب أتوبيس المدرسة الذي يقل بعض طلاب المدرسة من أعمار مختلفة. كان بداية مثيرة تدعوك لمشاهدة العمل ولكنك كنت ستحتاج الى الدخول الى عالم كل مصاب فيهم لتعيش معهم المأساة؛ ولا يتحول الحادث الى مجرد خبر عابر يمكنك مشاهدته عبر نشرات الاخبار؛ ويؤثر فيك لحظيا ثم تباشر حياتك؛ وربما فى هذا المارثون الرمضانى لاتفكر للعودة لمتابعة العمل إذا شدك مسلسل آخر توحدت مع أبطاله من البداية. حالة الحزن خلال الحلقات الأولى من المسلسل، وظهور القلق والرعب على أبطال العمل نتيجة تعرض أبنائهم لحادث انقلاب أتوبيس المدرسة قدمت بطريقة كانت قادرة على إثارة عواطف المشاهدين وجعلهم يتقاربون مع أبطال العمل ويتوحدون معهم. ونجح المخرج فى خلق نوع من التوتر مصحوب بألم، سرعان ما يتسع نطاقه ليصل أقتناعك بأن الشخصيات التى امامك على الشاشة تعانى من الحزن والإصابة بالاكتئاب هى شخصيات حقيقية من لحم ودم، ربما تعرفها ؛او أن بها جزء منك أنت شخصيا؛ بل قد يتجاوز الامر الى حد أقتناعك أن الحكاية بنيت برمتها على تجربة حقيقية؛ الأمر الذي يقرّبنا أكثر من شخوص العمل و بناء الجسور مع الأحداث. والمسلسل نجح فى الاقتراب فى بعض مشاهده من دروب الدراما النفسية، وحاول جاهدا الاستفادة من تأثيراها بطرح الحادث في أجواء أنسانية، متوسدا عليها لطرق أبواب العديد من القضايا ذات الطابع الاجتماعي، بعضها يتعلق بعلاقة الآباء بالأبناء، وحقوقهم وأخرى تتصل بالعلاقات الاسرية كلها، وهي قضايا تكاد أن تكون مثار جدل فى حياتنا اليومية. المخرج وهو كاتب السيناريو والابطال حاولوا اللعب جيداً على وتر الإنسانية، وهوما نتلمسه فى مواقف عدة تميزت بالشاعرية وخاصة فى علاقة اسرة احمد وفيق ورانيا فريد شوقى؛ والرائع أنه أعطى كل اسرة مساحة واسعة لرسم تفاصيل العلاقة بينهم، فكانت بمثابة تمهيد لبقية تفاصيل الحكاية ومراحلها، وما سنشهده من تحولات درامية بالمسلسل؛ بأسلوب متكامل في أركانه، وإيقاعه الدرامي. و زاد من ترابطه أداء أبطاله الذين تمكنوا بخبرتهم الفنية الكبيرة من معايشة الحالة النفسية والتعبير عن اللحظات الدقيقة التي تمر بها الاحداث، وهو أداء كان بمثابة «طوق النجاة» للمسلسل من الوقوع في فخ الرتابة، في ظل العرض المستفيض لمشاكل الواقع والحياة. ورغم محافظة المخرج على اسلوب السرد للمشاكل الشخصية لأبطال العمل ؛إلا أن هذا لم يمنعه من إحداث تحولات درامية في العمل تزيد الأحداث سخونة؛ مركزا على التحولات الدرامية والشروخ التى تصيب العلاقة الزوجية بين ابطال العمل؛ والتى ظهرت فى البداية ، حيث يتجه كل واحد منهما في طريقه، رغم تواجدهما معاً تحت سقف واحد. ويستوقفك فى هذا العمل المميز البطولة الجماعية؛ التى تعطى للعمل احد سمات تفرده وتميزه؛فكل بطل بالعمل له القدرة على اعطاء المشاهد التى يظهر فيها نكهته الخاصة، ومفردات ابداعه التى يتميز بها. و كل واحد فيهم يعلم ان نجاح العمل ببأكمله هو نجاح خاص بالنسبة له ،ولم يسقط مخرج العمل فى براثن مرض تمييز نجم على أخر؛ وحشو مشاهد لاتسمن أبداعا ولاتغنى من تمكن درامى لبطل على حساب السياق الدرامى للعمل؛ وهذا يحسب بكل تأكيد لهانى كمال . ويبدو ان رانيا فريد شوقي فى هذا العمل تؤكد بأدائها على أن قيمة العمل بمحتواه ومضمونه، وان مايريده الممثل من العمل ليس حوارا طويلا أجوفا؛ يستعرض فيه ادائه ؛ولكن سيناريو متماسك اواصيره، وحوارهادف يتيح للفنان التواحد معه، ليصبح جزءا من نسيجه. ويكمل صبري فواز تألقه وقدرته على التنوع فى اداء الشخصيات، بصورة تجعلك تندهش، وانت تتنقل بين عمل واخر له يعرض فى نفس الوقت؛ دون ان تختلط عليك الشخصيات. وجاءت عودة وفاء صادق بكل هذا الدفئ فى الاداء والاخلاص للتفاصيل الدقيقة بالشخصية. أما أحمد وفيق فمازال قادر مع كل عمل جديد له ان يؤكد للمشاهد ان بداخله بواطن ابداع لم تكتشف؛ وشخصية الاب التى قدمها؛ الاقرب الى مدرب التنمية البشرية المشحون بالتجارب، كانت ستفقد الكثير اذا لم يكن وفيق هو مؤديها. ويؤكد ماجد الكدوانى أن مشاهد قليلة تكفى الممثل المميز ليسيطر على مخيلة المشاهد، وهو يتابع باقى الاحداث .ويبدو أن أحمد صيام يعرف ليس فقط ابعاد الدور الذى يؤديه؛ ولكن الاثار الناتجة منه واثرها على المحيطين به ؛ وبأدائه الهادئ البعيد عن المبالغة يتمكن من الامساك بالشخصية . ومازالت صفاء الطوخي قادرة على اضافة شخصيتها المتفردة على الدور الذى تؤديه؛ لتعطى سمات خاصة لشخصية مديرة المدرسة الجشعة المتسلطة.