فى ليلة كهذه، منذ ستة وثلاثين عامًا، طار عصفور الشعر الحزين إلى الأرحب، غادر فى ليلة كان يحسبها ليلة سمر مع من أحبهم، رحل الرجل بعد أن استمع إلى الجميع، ولم تمهله دقات القلب الحزين، دقائق يدافع فيها عن نفسه. فى 14 أغسطس 1981، رحل الشاعر الكبير صلاح عبد الصبور متأثرًا، بنوبة قلبية أودت بحياته، بعد حوار حاد مع الفنان الراحل بهجت عثمان، فى منزل صديقه الشاعر أحمد عبد المعطى حجازى، وكان يزور حجازى فى منزله بمناسبة عودة الأخير من باريس ليستقر فى القاهرة، رحل بعدما اتهمه أصدقاء العمر بأنه قبل منصب رئيس مجلس إدارة هيئة الكتاب، طمعًا فى الحصول على المكاسب المالية، متناسيا واجبه الوطنى والقومى فى التصدى للخطر الإسرائيلى الذى يسعى للتطبيع الثقافى، وأنه يتحايل بنشر كتب عديمة الفائدة لئلا يعرض نفسه للمساءلة السياسية. «يا صاحبى إنى حزين طلع الصباح فما ابتسمت ولم ينر وجهى الصباح وأتى المساء.. فى غرفتى دلف المساء والحزن يولد فى المساء لأنه حزن ضرير» من يقرأ هذه الكلمات للشاعر، والتى يخبر فيها صاحبه أنه حزين، يتصور أنه أنشدها من العالم الآخر بعدما غادر، ليخبر أصدقاء العمر كم هو حزين. ولكن هل تصور عشاق عبد الصبور ومريدوه، حين قرأوا هذه القصيدة فى بدايات الشاعر الشاب، أن هذا الحزن سيظل يرافقه حتى مسائه الأخير، حين ينشد أغنية «الشتاء» ليقول: «ينبئنى شتاء هذا العام أننى أموت وحدي ذاتَ شتاء مثله، وأن أعوامى التى مضت كانت هباء وأننى أقيم فى العراء ينبئنى شتاء هذا العام أن قلبى ميت منذ الخريف أموت لا يعرفنى أحد أموت لا يبكى أحد». لم تنته متوالية الحزن فى حياة صلاح عبد الصبور أبدًا، ما دفع عددًا من الباحثين والنقاد للسير خلف حزن الشاعر بحثًا عن دوافعه، وكان منهم الناقدة مديحة عامر فى كتابها «قيم فنية وجمالية فى شعر صلاح عبد الصبور»، حيث قدمت على مدى ثلاثمائة صفحة تنويعات نقدية وسلسلة من الدراسات التذوقية والتحليلية فى دواوين صلاح عبد الصبور الستة: «الناس فى بلادي» 1957،«أقول لكم»، «أحلام الفارس القديم»، « تأملات فى زمن جريح»، «شجر الليل» «الإبحار فى الذاكرة» 1979. تبدأ الكاتبة دراستها بالحديث عن المنطقة الأكثر ظهورًا فى أعمال الشاعر، فتلقى الضوء على ظاهرة الحزن فى شعر صلاح عبد الصبور، فتقول «يولد الفن العظيم فى أحضان الألم العظيم، وأنات الفنانين والأدباء هى وهجهم المتألق، ولحنهم الخالد عبر الزمان، وربما كان الشاعر صلاح عبد الصبور أكثر شعرائنا المعاصرين حديثا عن الحزن». وتؤكد الكاتبة أن نغمة الحزن فى شعر صلاح عبد الصبور نغمة أصيلة مشاركة فى كل تنويعات العزف، سواء ذكر الحزن أو لم يذكره، وصفه أو أغفله، وذلك منذ أن أطلق صيحته الشهيرة «يا صاحبى إنى حزين» فى قصيدة «الحزن» فى أول دواوينه «الناس فى بلادى 1957» وحتى قوله: «وحيدا حزينا أواجه ما كان حبك» فى قصيدة «شذرات من حكاية متكررة وحزينة» فى آخر دواوينه «الإبحار فى الذاكرة 1979». لماذا أنت حزين؟ سؤال ظل يلازم الشاعر من القراء والنقاد طوال مشواره الشعرى، فيجيب فى كتابه البديع «حياتى مع الشعر»: «لست شاعرًا حزينًا، ولكننى شاعر متألم، وذلك لأن الكون لا يعجبنى، ولأننى أحمل بين جوانحى – كما قال شيللى – شهوة لإصلاح العالم، وهذه الشهوة هى القوة الدافعة فى حياة النبى والفيلسوف والشاعر، لأن كلا منهم يرى النقص، فلا يحاول أن يخدع نفسه، بل يجتهد فى أن يرى وسيلة لإصلاحه، ويجعل دأبه أن يبشر بها». يعد الشاعر الكبير صلاح عبد الصبور، أحد أهم رواد حركة الشعر الحر العربى، ومن رموز الحداثة العربية المتأثرة بالفكر الغربى، حيث ودع صلاح عبدالصبور الشعر التقليدى؛ ليبدأ السير فى طريق جديدة تمامًا، تحمل فيه القصيدة بصمته الخاصة، فأصبح فارسا فى مضمار الشعر الحديث. كما يعدّ واحدًا من الشعراء العرب القلائل، الذين أضافوا مساهمة بارزة فى التأليف المسرحى، وفى التنظير للشعر الحر. هو محمد صلاح الدين عبدالصبور يوسف الحواتكى، ولد فى 3 مايو 1931 بمدينة الزقازيق، التحق بكلية الآداب جامعة القاهرة قسم اللغة العربية فى عام 1947 وفيها تتلمذ على يد الشيخ أمين الخولى. ترك عبدالصبور آثارا شعرية ومسرحية أثرت فى أجيال متعددة، ومن أبرز أعماله: «مذكرات بشر الحافي» و«مأساة الحلاج» و«ليلى والمجنون»، ومن أبرز الدراسات التى كتبت عن أعماله، ما كتبه الناقد الدكتور عزالدين إسماعيل فى كتابه: «الشعر العربى المعاصر: قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية والجحيم الأرضى للناقد الدكتور محمد بدوى. تقلد عبد الصبور عددا من المناصب، وعمل بالتدريس وبالصحافة وبوزارة الثقافة، وكان آخر منصب تقلده رئاسة الهيئة المصرية العامة للكتاب، وساهم فى تأسيس مجلة فصول للنقد الأدبى، فضلا عن تأثيره فى كل التيارات الشعرية العربية الحداثية. حصل على جائزة الدولة التشجيعية عن مسرحيته الشعرية «مأساة الحلاج» عام 1966 كما حصل بعد وفاته على جائزة الدولة التقديرية فى الآداب عام 1982، والدكتوراه الفخرية فى الآداب من جامعة المنيا فى نفس العام.