«حوّلت اضطرابات الثمانية عشر شهراً الماضية المشهد الإقليمي المعقد بالفعل إلى ما يحتمل أن يكون البيئة الإستراتيجية الأكثر معاداة في التاريخ الحديث.» مع اصطفاف المصريين في طوابير طويلة للتصويت في أول انتخابات رئاسية تنافسية خلال 7000 عام، كيف ينبغي علينا فهم السرعة والنطاق والتغيرات المتنوعة التي تعمل على تحويل المشهد السياسي في الشرق الأوسط؟ قبل عام، كانت الرواية بسيطة وهي أن العرب قد استيقظوا من سباتهم الطويل وطالبوا بمعاملتهم كمواطنين لا رعايا. ولكن منذ ذلك الحين أخذ هذا التغيير جميع الأشكال والنماذج. فهل سيكون المشهد البارز والمميز للانتفاضات العربية هو اصطفاف طوابير من الناخبين المصريين [أمام اللجان] وهم يتحلون بالصبر أم مشهد التونسي محمد البوعزيزي وهو يضحي بنفسه؟ أم سيكون مشهداً أقل شجاعة كمطاردة الثوار للقذافي كفأر لإخراجه من ماسورة الصرف التي اختبأ بها في ليبيا؟ أم مشهداً وحشياً مثل فيديو اليوتيوب لرجل سوري دُفن حياً على يد عصابة من العلويين تحمل المجاريف وتجبر الضحية على قول "لا إله إلا الله وبشار رسول الله"؟ أم بدلاً من ذلك سنرجع بالذاكرة إلى الوراء لنرى صوراً لعربات مكافحة الشغب السعودية وهي تعبر الجسر للمساعدة في سحق لحظة "الربيع العربي" في البحرين باعتبارها الصور الأكثر تأثيراً خلال الثمانية عشر شهراً الماضية؟ والحقيقة هي أن «الربيع العربي» - تسمية خاطئة لها أبعاد هائلة - هو بالفعل مفهوم عام وشامل يضم العديد من التجارب الوطنية المختلفة التي تغطي طيفاً واسعاً. كما أن الجمع بين هذه التجارب دون تمييز هو ضرب من الغباء والحماقة، خاصة أن معظم هذه الدول لا تزال في الفصل الأول أو الثاني من مسرحية ذات خمسة فصول. وسوف يستغرق الأمر سنوات في أماكن عديدة قبل أن ينقشع الغبار السياسي ونستطيع أن نرى بوضوح كيف أن انتفاضات 2011-2012 قد حولت فعلاً التوجهات الإستراتيجية لأنظمة الحكم في الشرق الأوسط. ومع ذلك، فليس من السابق لأوانه أن ينظر الخبراء الأستراتيجيون إلى أنماط واسعة النطاق. فالمراقبون المتابعون للمشهد عن قرب في الشرق الأوسط العربي - مثل الأمريكيين والإسرائيليين - ليس لديهم أي خيار سوى ربط جميع المشاهد المتاحة لكي يتمكنوا من الحكم على التهديدات والفرص. والحقيقة المحزنة - كما يُنظر إليها من واشنطن أو القدس - هي أن اضطرابات الثمانية عشر شهراً الماضية قد حولت المشهد الإقليمي المعقد بالفعل إلى ما يحتمل أن يكون البيئة الإستراتيجية الأكثر معاداة في التاريخ الحديث. نظرة من واشنطن إن إحدى الطرق المفيدة لأستراتيجي أمريكي لتقييم مكانة الولاياتالمتحدة في الشرق الأوسط هي تقييم العلاقات مع أكثر الدول الثلاث أهمية في المنطقة وهي إيران وتركيا ومصر. فهذه الدول، التي تتحكم كل منها بممرات مائية استراتيجية بالغة الأهمية، تملك إرثاً من الثقافات يعود إلى آلاف السنين، وتتمتع بهويات وطنية راسخة وتضم أعداد كبيرة من السكان ولها نفوذ اقتصادي وعسكري كبير. وينبغي أن يكون الهدف الرئيسي للسياسة الأمريكية هو توطيد علاقات وثيقة مع اثنين على الأقل، وإذا أمكن، مع جميع هذه البلدان الثلاثة كوسيلة لإبراز قوتها في جميع أنحاء المنطقة. في أغلب الفترات بعد الحرب العالمية الثانية كانت لواشنطن علاقات ممتازة مع اثنين على الأقل من هذه الدول، كما حظيت بعلاقات وثيقة مع البلدان الثلاثة لفترة وجيزة في سبعينيات القرن الماضي - أي تحوّل أنور السادات باتجاه الغرب وسقوط شاه إيران. وإذا ما استعرضنا الأحداث الماضية، نلاحظ أن تلك العلاقات كانت العامل الرئيسي وراء نفوذ الولاياتالمتحدة في المنطقة. ومنذ ذلك الحين انجرفت هذه الدول - الواحدة تلو الأخرى - بعيداً عن المعسكر المؤيد للولايات المتحدة. لقد كانت البداية مع إيران عندما تم الإطاحة بنظام الشاه خلال الثورة الإسلامية عام 1979. ثم ما لبثت تركيا أن ابتعدت بعد ذلك عن المشهد مع صعود «حزب العدالة والتنمية» الإسلامي ومجيئه إلى الحكم وقيامه بتحييد الجيش الذي كان قوياً ذات مرة ومحولاً أحد حلفاء "الناتو" الذي كان يوثق به سابقاً نحو اتخاذ موقف أكثر حيادية تجاه القضايا الإستراتيجية الرئيسية. واليوم، حان دور مصر. فمع هيمنة الإسلاميين على البرلمان وتوقع عودة الجيش المصري لثكناته مضطرباً بعد عام كارثي في إدارة البلاد، فحتى فوز مرشح مناهض للإسلاميين سيبطئ من ابتعاد مصر عن معسكر المناصرين للولايات المتحدة والغرب، والمؤيدين للسلام في الشرق الأوسط. وبالنظر إلى هذه الدول مجتمعة، لن يجد الإستراتيجيون الأمريكيون المراقبون للمنطقة - لأول مرة في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية - أي حليف قوي من بينها. نظرة من القدس نظراً لاختلاف الجغرافيا والاقتصاد والقدرة العسكرية، فمن الطبيعي أن تنظر مفكّرة إسرائيلية للشؤون الإستراتيجية إلى هذه المنطقة بشكل مختلف عن نظرة أمريكي. لكن من المرجح أنها ستصل إلى استنتاجات كئيبة على نحو مماثل. وفي الواقع عندما يقارن المرء بين المشهد الجديد والأوضاع الإقليمية التي أدت إلى ظهور الإستراتيجيتين الكبيرتين اللتين وجهتا العقيدة الأمنية الإسرائيلية على مدار العقود الستة الماضية، لا يمكن لوم الإسرائيليين على شعورهم بالقلق والحيرة. وقد اعتمدت الإستراتيجية الأولى الكبرى لإسرائيل - كما أعدها أبيها المؤسس ديفيد بن غوريون - على الفكرة بأن الدولة اليهودية الوليدة تستطيع بفعالية كبيرة مواجهة العداء من الدول العربية المجاورة من خلال بناء علاقات وطيدة مع دول غير عربية بعيدة عن الإطار أو «المحيط» الخارجي للمنطقة. وكانت النتيجة هي تطوير إسرائيل لعلاقات هادئة مع إيران في ظل حكم الشاه ومع تركيا العلمانية - وهي الإتصالات التي أثبتت أهميتها الحيوية في بقاء إسرائيل في الخمسينات والستينات والسبعينات من القرن الماضي. لكن أدّى حدثان تاريخيان في سبعينيات القرن الماضي— معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل والثورة الإيرانية— إلى إحداث تغيير جوهري في حسابات إسرائيل الإستراتيجية. ففقدان شريك استراتيجي بعيد والحصول على آخر قريب— مجرد عبر صحراء سيناء— قد خلق عقيدة جديدة أعلنها بكل وضوح المفكر الإستراتيجي الكبير الثاني لإسرائيل إسحاق رابين. كحمامة بمخالب صقر، آمن رابين بحاجة إسرائيل إلى الإستفادة من الفرصة لإقامة علاقات سلمية مع الدول العربية السنية من «المحيط الداخلي» كوسيلة لبناء أرضية مشتركة في مواجهة تهديد «المحيط الخارجي» الذي تشكله إيران غير العربية. وعلى مدى السنوات الثلاثين الماضية، كانت دبلوماسية السلام الإسرائيلية مع الأردن وسوريا والفلسطينيين، التي تم تأييدها بصورة متقطعة وغير منتظمة من قبل دول الخليج وشمال أفريقيا، هي نتاج حساب هذه الإستراتيجية الجديدة. لقد ولت تلك الأيام. واليوم— نتيجة التغيير التحولي للانتفاضات العربية— تواجه إسرائيل وضعاً جديداً وغير مسبوق في المنطقة. فللمرة الأولى في تاريخها تقع كل دولة من دول «المحيط الخارجي» و«المحيط الداخلي» إما تحت قيادة إسلاميين متطرفين أو أنها تتقدم نحو هذا الاتجاه. ويضم هذا المحيط الخارجي جمهورية إيران الإسلامية تحت ظل الدكتاتورية العسكرية العميقة ل«الحرس الثوري»، وتركيا تحت سيطرة «حزب العدالة والتنمية»--التي سجنت ثلث جنرالاتها وقادتها البحريين--وهما الحليفان في الشراكة الاستراتيجية مع إسرائيل. وفي حين تواجه إسرائيل بالفعل على حدودها اثنين من الأنظمة التي يهيمن عليها الإسلاميون (غزة ولبنان)، فإن مصر هي الآن في طريقها للانضمام إلى هذه الأنظمة، مع احتمال ألا يختلف الأمر عن ذلك كثيراً في سوريا في مرحلة ما بعد الأسد. وبينما لا يقف أي شئ أمام تطويق إسرائيل الكامل بأنظمة يهيمن عليها الإسلاميون إلا شوكة رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس وشجاعة العاهل الأردني الملك عبد الله، فعندئذ يحق للإسرائيليين أن يشعروا بالقلق البالغ. ما الذي يجب عمله؟ بطبيعة الحال ليس كل شيء قد فُقد في الشرق الأوسط، سواء بالنسبة للولايات المتحدة أو لإسرائيل. فلا تزال الولاياتالمتحدة القوة العسكرية [الأولى] بلا منازع في المنطقة، حيث أقامت نظام تحالفات ضمنية معترف بها مع الدول الرئيسية، وخاصة الأنظمة الملكية العربية، التي أضعفت بشكل فعال سعي إيران للحصول على نفوذ اقليمي. ومن جانبها، فإن إسرائيل هي موضع حسد في المنطقة - من ناحية قدرتها العسكرية وقوتها الأقتصادية وتماسكها الاجتماعي وعمق علاقاتها مع القوة العظمى الحليفة لها. فلا تراجع أمريكا المخزي من المنطقة ولا انهيار الكومنولث اليهودي الثالث هو من المقترحات الواردة على المدى القريب. ومع ذلك، لا يمكن أن تكون واشنطنوالقدس راضيتان عن اتجاه السياسات الإقليمية. فهناك الكثير الذي يتعين القيام به - على حدة وسوية وبالتنسيق مع جهات فاعلة إقليمية ودولية أخرى - للحد من الانجراف والتحول السلبي للمنطقة، من أجل تحسين الفرص بأن تؤدي السياسات الانتخابية في النهاية إلى نتائج أكثر إيجابية للتيار الليبرالي، والعمل على تقوية القوى الباقية الموالية للغرب في المنطقة. كما أن محاولة الكسب من جديد لإحدى القوى الإقليمية الثلاث الرئيسية على الأقل تعتبر أولوية قصوى. وهذا يعني في الواقع ضرورة العمل بصبر لاستعادة بعض مظاهر علاقات العمل بين تركيا وإسرائيل - وذلك ليس عملاً سهلاً عندما توجه المحاكم التركية الاتهامات إلى جنرالات إسرائيليين. وهذا يعني الاستثمار في الإمكانات الرامية إلى تحقيق هذا النوع من التغيير التحويلي داخل إيران الذي تم قمعه، ولكن المرء يأمل ألا تكون قد تمت إبادته بسبب ملاحقة النظام ل "الحركة الخضراء" قبل ثلاثة أعوام. أما بالنسبة لمصر- التي لا تزال في الأيام الأولى من لحظتها الثورية - فلا تملك الجهات الخارجية سوى نفوذاً محدوداً للتأثير على اتجاه السياسات المضطربة لتلك البلاد. فمع النفوذ الذي تتمتع به الولاياتالمتحدة من خلال تقديمها 1.5 مليار دولار بصورة مساعدات وتصويتها المؤثر في مجالس إدارات المؤسسات المالية الدولية حيث يُطلب منها منح قروض بمليارات الدولارات لدعم الأقتصاد المصري الفاشل، قد يكون من الحكمة أن تركز واشنطن على تأمين مصالحها الأمنية الأكثر أهمية وألا تحاول التدخل في إدارة عملية الإصلاح السياسي أو التلاعب بالعلاقة المتطورة بين السلطة المدنية والعسكرية. ومن جانبها، اتخذت إسرائيل بالفعل القرار الصائب - بناء سياج على طول حدودها مع سيناء التي يسهل اختراقها وإحياء فرقة الجيش الخاملة التي كانت تحمي إسرائيل قبل ذلك من التعرض لغزو من المنطقة الجنوبية. وفي حين أنه من غير المحتمل شن هجوم تقليدي في الوقت القريب، تتجه مصر لا محالة إلى رفع شعار اللاحرب / واللاسلم وهو ما يجعل كافة الاحتمالات واردة. لذلك، نحن نحتفل اليوم - بصورة عادلة - بالسلام النسبي والنظام ونزاهة الانتخابات في مصر. ومع ذلك، فغداً هو فجر يوم جديد. ______________________________________________________________________________________________________________________________________________ * روبرت ساتلوف هو المدير التنفيذي ل«معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى»، الذراع البحثي للوبي الإسرائيلي في واشنطن المعروف اختصارا ب«إيباك». وتمثل أبحاث ودراسات هذا المعهد توجهات المؤسسة الصهيونية بالولاياتالمتحدة. ** المصدر: معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى/ «تايمز أوف إزرائيل».