\r\n وتقليدا لنموذجهم الاعلى, اختار اغلبهم زراعة الاراضي الجديدة, فالزراعة لم تكن تعتبر وسيلة للعيش فحسب, انما رسالة قومية واخلاقية. \r\n \r\n يرسم جيرشوم غورنبرغ في كتابه »امبراطورية الصدفة« هذه المقارنة بين اليسار الجديد والصهيونية الجديدة وهي مقارنة تنطوي على رؤية اصيلة ومثيرة للاهتمام, لكنها لا توضح الكثير ضمن اطار التاريخ اليهودي فقد عرفت اسرائيل في ستينات القرن الماضي نوعا من ازمة الاجيال الجديدة. لكن تلك الازمة لم تتحول الى ذلك الانقلاب الجذري الذي هز مجتمعات الغرب الصناعي. يضاف الى ذلك ان الاسرائيليين واصلوا الاستيطان في الضفة الغربية بعد مرور مدة طويلة على تلاشي حمى الستينات, بل انهم ما زالوا يواصلونه حتى هذه اللحظة. \r\n \r\n ان فهم المستوطنين لا يحتاج الى نظريات اجيال, فالكثير منهم عبارة عن اشخاص متدينين يدفعهم الايمان برسالة قومية. وكل ما فعله انتصار عام 1967 انه حول تلك الرسالة من توجه ضيق الى ايمان طاغ شمل قطاعات واسعة من المتدينين الاسرائييين وخصوصا الشباب منهم. وكما كان الحال بالنسبة لمواطنيهم الاكثر علمانية في الكيبوتزات, آمن الصهاينة الجدد بان على اليهودي ان يخلع عنه الضعف ويعود الى الارض ويتبنى المجهود البدني والقوة العسكرية سبيلا لتحقيق نموذجه الاعلى. لكن هؤلاء الصهاينة الجدد رفضوا بعد عام 1967 ان يتخلوا عن اعتناقهم لليهودية التقليدية والاستعاضة عنها بالعلمانية كما فعل الكيبوتزيون. وبكلمة اخرى, يمكن القول ان احداث عام 1967 قد اوجدت تلاحما جديدا بين الوطنية الاسرائيلية والحمية الدينية مما افرز في النهاية عصبة من المستوطنين المتميزين بالتعصب الحاد. \r\n \r\n الحبة السامة \r\n \r\n لكن الباحث الذي يركز على العقد الاول الذي تلى الحرب, يغفل عن ظهور جماعات المستوطنين غير المؤدلجين الذين جاءوا لاحقا. فالمتعصبون الدينيون لم يكونوا وحدهم الذين اقاموا المستوطنات في الاراضي التي احتلت بعد حرب .1967 اذ انتقل الى تلك الاراضي الكثير من الاسرائيليين وحلوا في المشاريع الاسكانية التي اقيمت في القدسالشرقية, والضفة الغربيةوغزة لا لسبب الا لكون المساكن هناك ارخص ولان المستوطنات كانت تقدم لهم مستوى من المعيشة يفوق ما كان بوسعهم توفيره في المناطق الاخرى. وكان قسم كبير من اولئك المستوطنين مهاجرين جددا جاءوا الى اسرائيل من اماكن شتى, وبالاخص من المعسكر السوفييتي, وما كانوا يميزون كثيرا بين ارض اسرائيل نفسها وبين الاراضي التي تحتلها. \r\n \r\n يؤثر المنظور الضيق الذي ينظر منه غورنبرغ الى واقع الاستيطان اليهودي على حجم الاهتمام الذي يمنحه لحكومات حزب العمل المتتالية بزعامة ليفي اشكول وغولد مائير واسحاق رابين. اذا يبدو انه يتقبل وجهة النظر التقليدية التي تفيد بان هؤلاء الزعماء لم يجيزوا اقامة المستوطنات بدافع من حماسة ذاتية للمشروع الاستيطاني انما باعتباره مجرد وسيلة للمحافظة على بقائهم في السلطة, ويدعي غورنبرغ ان صعود بيغن الى رئاسة الحكومة في عام 1977 لم يكن, كما يعتبره الكثيرون, لحظة انطلاق العمل في بناء المستوطنات. لان سياسة بيغن, كما يراها غورنبرغ, لم تكن سوى, »تصعيد لتوجهات قائمة«. \r\n \r\n لا يمكن المصادقة على هذا الادعاء, فبحلول عام 1977 بدأ المستوطنون لانتقال الى الاراضي المحتلة وكان عددهم آنذاك اقل من 60 الفا عاش حوالي 40 الفا منهم في القدسالشرقية. لكن هذه الارقام تضاعفت بشكل درامي تحت حكم بيغن على نحو ادى الى خلق واقع استراتيجي جديد. وتجاهل فترة بيغن لا يقدم سوى النصف الاول من حكاية الاستيطان, في حين ان النصف الثاني هو الاكثر مأساوية. \r\n \r\n لكن غورنبرغ محق في تأكيده على الدور المهم الذي لعبه حزب العمل. لقد شجعت جميع الحكومات الاسرائيلية في الواقع, الاستيطان كما شجعه معظم الاسرائيليين. وخلال جميع الانتخابات التي جرت بعد عام 1967 طرحت على الاسرائيليين اختيارات متعددة لاحزاب مضادة للاستيطان لكنهم لم يصوتوا لها. وقاموا, بدلا عن ذلك, باختيار الحكومات التي تصرفت بالضد من مصلحة اسرائيل الوطنية. \r\n \r\n على الرغم من ان الحركة الصهيونية تدعو منذ زمن طويل للاستيطان, فانها كانت تخشى على الدوام من رادع واحد يتمثل في كون الاستحواذ على المزيد من الارض قابل على اطلاق تهديدات سكانية جادة. ولهذا السبب تبنت الحركة استراتيجية اساسية هي استراتيجية »الحد الاعلى من الارض مع الحد الادنى من العرب« وقد فضل معظم منظريها الاحتفاظ باغلبية يهودية قوية في الاراضي الخاضعة للسيطرة اليهودية على حكم مساحات اكبر يسكنها العرب. \r\n \r\n يخفق غورنبرغ في ايضاح السبب الذي حمل الكثير من الاسرائيليين على التخلي عن هذا المنطق بعد حرب الايام الستة وهو سؤال صعب للغاية, وليس من الممكن حصر الاجابة عليه بالجشع الاستعماري او الاصولية الدينية. كما ان الاعتبارات الاستراتيجية وحدها لا تكفي لتبرير هذا التحول. ولعل الجواب الحقيقي يكمن في المفارقة الكامنة في قلب الحلم الصهيوني نفسه الذي لا بد لتحقيقه من التخلي الجزئي عنه. فالصهيونية تؤمن بحق الشعب اليهودي بكامل مساحة ارض الوعد التوراتي لكنها اكتشفت بالتجربة ان ضم كل تلك الارض الى دولة اسرائىل سوف يجعلها اقل يهودية واقل ديمقراطية وعلى مدى سنوات جهد الاسرائيليين لمعرفة الموضع الذي سيقيمون فيه الخط الفاصل الذي يجدد المساحة التي يمكن ان تستوطن دون تعريض يهودية اسرائيل للخطر. \r\n \r\n لقد الحقت المستوطنات الضرر بالفلسطينيين والاسرائيليين على حد سواء مالياً, ابتلعت المستوطنات اموالاً ضخمة كان يمكن ان تنفق على تحسين الخدمات الاجتماعية داخل اسرائيل. وكان من نتيجة هذا الانفاق تدني مستوى الخدمات التعليمية والصحية في اسرائيل في السنوات الاخيرة. \r\n \r\n في الوقت نفسه, حولت انتهاكات حقوق الانسان المستمرة في الاراضي المحتلة المجتمع الاسرائيلي وطبعته بطابع القسوة والوحشية اضافة الى اساءتها البالغة لصورة اسرائيل في الخارج كما عمقت الصدامات على نحو خطير الصدع القائم بين مواطني اسرائيل من اليهود والعرب وقد نجم عن تلك الانتهاكات العديد من موجات العنف الفلسطيني المتكررة والاجراءات الانتقامية الاسرائيلية التي حصدت ارواح الالوف من الاسرائيليين والفلسطينيين معاً. \r\n \r\n يتزايد منذ عام 1967 عدد الاسرائيليين الذين باتوا يدركون مغبة الاحتلال ولعل هذا هو السبب الذي دفع غالبية الاسرائيليين الى تأييد خطوة ارئيل شارون الدرامية بالانسحاب من غزة من طرف واحد, وهي الخطوة التي يمكن ان تسجل في التاريخ كمنطلق لاعادة الحياة الى العملية السلمية او كاستراحة قبل المعركة القادمة. \r\n \r\n لن يكتب لاحد ابداً ان يعرف على وجه التحديد الوجهة التي كان شارون يرغب في ان يسير بالنزاع الاسرائيلي - الفلسطيني اليها لكن من غير المرجح ان كان سيتوصل الى اتفاق مع الفلسطينيين لولا الجلطة التي اخرجته من الحياة السياسية. فقد اعتبر شارون الفلسطينيين دائماً اعداء له ولم يفكر بهم ابداً كشركاء. \r\n \r\n وكان الانسحاب احادي الجانب من غزة اجراء يتخذه جنرال يسحب قواته تحت اطلاق النار, وليس عملية يلجأ اليها سياسي باسم السلام. \r\n \r\n وفي جميع الاحوال, فان ذلك الانسحاب كان اول عملية اخلاء لمستوطنات اقيمت فيما يعتبر ارض اسرائيل التوراتية. ولعل كسر ذلك التحريم المشدد سيسجل كانجاز لشارون هو الاهم من بين جميع انجازاته. وسوف يكون على الاسرائيليين ان يشكروا شارون لانه قد اظهر لهم ان التخلي عن المستوطنات يمكن ان يتم من دون الم. واذا كان لتفكيك المستوطنات اليهودية في غزة من اهمية فانها تكمن في احتمال كونه الخطوة الاولى على طريق العودة الى الواقعية التي تخلت عنها اسرائيل بعد حرب .1967 \r\n