عادة ما يشتكى الإنسان من ظلم الناس له، لكن هل من الممكن أن يظلم الإنسان نفسه؟ الإجابة فى العقيدة الإسلامية - حسب ما فهمت - قاطعة بالإيجاب، وقد تكون كذلك فى عقائد دينية أخرى لست ملما بها. فى الإسلام تتسم العلاقة بين المؤمن وربه برباط الحب. الله يحب الصادقين والتوابين والمتصدقين والمتطهرين والصابرين والمتقين والمقسطين والمحسنين (يعنى الذين يتقنون أعمالهم وواجباتهم) وغيرهم من ذوى الصفات المذكورة فى مواضع كثيرة فى القرآن. وهؤلاء ينطلقون فى صدقهم وتوبتهم وتطهرهم وتقواهم وكل معاملاتهم من حبهم لله. إذا إختلت هذه الصفات فى المؤمن للحظة أو لحظات فإن هذا ينعكس على علاقة الحب المتبادلة بين العبد وربه. فحب الله لعباده مشروط بإستيفاء هذه الصفات وغيرها. وبالتالى فعلى المؤمن أن يجاهد نفسه (التى وصفها الله فى القرآن بأنها أمّارة بالسوء) طيلة حياته لتكتسب وتداوم على حفظ هذه الصفات، وهو ما يمكن أن نطلق عليه بالإرتقاء الروحى. وبما أن هدف المؤمن فى حياته هو الفوز بحب الله له فإن إخفاقه فى إكتساب هذه الصفات أو التفريط فيها بعد إكتسابها (يعنى سقوطه فيما يعيق إرتقائه الروحى) قد يؤدى إلى حجب هذا الحب عنه ويكون بالتالى قد ظلم نفسه ظلما شديدا. و يكون الظلم مضاعفا إذا إنزلق المؤمن إلى صفات قد صرّح القرآن بأن صاحبها لن يناله شئ من حب الله. فالله لا يحب الخائنين (58:48) ولا المختالين (4:36) ولا الفرحين (28:76) ولا المستكبرين (23:16) ولا المعتدين (5:87) ولا الظالمين (3:140) ولا الذين لا يوفون بالعهد إذا عاهدوا والقائمة تتضمن المزيد.
هذا المفهوم الهام عن ظلم المؤمن لنفسه بفعل قد يستوجب حرمانه من حب الله قد ورد فى قصة "صاحب الجنتين" في سورة الكهف، وعلينا أن نستوعب الدرس الذى جاء فى هذه القصة لإرتباطه بما يدور على الساحة المصرية هذه الأيام. تُصوِّر الآيات مشهدا لرجلين كان لأحدهما جنتين من أعناب ونخل وزرع ولم يكن لدى الآخر من ذلك شيئا. ودخل صاحب الجنتين إليهما ذات يوم مختالا مستكبرا فخورا ظانّا أنّ هذه الجنة (وقد ترمز أيضا إلى ثروة أو سلطة حكم) ستدوم أبدا (وهذا الإيحاء من فعل الشيطان الذى يغوى الإنسان بمُلك لا يبلى). يقول الله تعالى "ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا، وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربى لأجدن خيرا منها منقلبا، قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذى خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سوّاك رجلا".
يظهر فى هذا المشهد أن صاحب الجنتين كان عنده أثر من إيمان، ربما هو إيمان العوام المكتسب بالوراثة، فهو مقتنع بأنه سوف "يُرد إلى ربه". كما يتأكد ذلك أيضا فى محاورة صاحبه له عندما قال "أكفرت بالذي خلقك"، فهذا يدل على سبق الإيمان على الكفر عند الرجل. لكن الإختيال والتفاخر والإستكبار إنتهوا بهذا الرجل إلى حالة الكفر التى وصفه بها صاحبه. ألا يكون الرجل بهذا قد ظلم نفسه لأنه قد حرمها من حب الله الذى تطمئن به القلوب؟ إن ظُلمَهُ لنفسه قد بدأ لحظة إعجابه (أو إنبهاره) بجنته وإنتهى عندما تصور أن "هذه لن تبيد أبدا". إذا أعجب الإنسان بأى فوز يتحقق له فى الدنيا وتمنى لو توقف الزمن عند ذلك الفوز حتى يخلد فيه فهذا هو مبدأ الإنحراف عن شروط الفوز بحب الله، وبالتالى فهو مبدأ ظُلمْ النفس.
ومن دقائق الدرس الهام فى هذه القصة ما يظهر من التناقض فى تفكير وأقوال ذلك المؤمن الذى إستولى حب جنته على عقله وعاطفته. فعندما يستولى حب النعمة على العقل يضطرب التفكير وتتناقض الأقوال. فالرجل كان يعلم الحق وهو "أن الساعة قائمة" لكنه أنكرها ظنا (لا يقينا) ثم ما يلبث أن يقر بإحتمالها لكنه يصر على أنه سيكون فائزا فى الآخرة كما كان فائزا فى الدنيا، وهنا يبدو التناقض: فمن أين له وهو المؤمن بالآخرة والحساب أن يقر مبدئيا بأنه سيكون فائزا بالثواب؟ "وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيراً منها منقلباً". هذا المسكين قد إضطرب تفكيره تحت تأثير الإيمان الممزوج بالهوى. إن هواه (أو قل شيطانه) كان يرفض إحتمال العقاب فى الآخرة - مع أنه وارد دائما - ليبرر فعله فى الدنيا. إن أبو بكر الصديق صاحب رسول الله لم يأمن عقاب الله وكان يقول "لا آمن مكر الله حتى تكون قدماى فى الجنة".
هذه القصة تشير بوضوح إلى أن الغرور بمكاسب ومباهج الدنيا (ومنها الجاه والسلطان) قد ينتقص كثيرا من رصيد الصفات التى تؤهل لكسب رضى وحب الله، وبالتالى يضيف للرصيد الذى يحجب هذا الحب. يتشارك فى هذا كل البشر: مسلمين وغير ذلك، إخوان وغير ذلك. فالتصنيف ك "إسلامى" لا يحصن صاحبه ضد فقدان حب الله له إذا لم يكن سلوكه "ربانى" بمعنى تمسكه بالصفات الربانية التى أودع الله فينا بذرتها كما أودع فينا أيضا الإستعداد لفعل الشر (فألهمها فجورها وتقواها).
السلوك الربانى هو الطريق للإرتقاء الروحانى، وهو يتحدد بما نستمده من صفات الله التى بثها فينا لحظة الخلق. لقد نفخ الله سبحانه فينا شيئا من روحه - بمعنى صفاته - فى لحظة الخلق (فإذا سويته ونفخت فيه من روحى فقعوا له ساجدين). فالسلوك الربانى إذن هو ثمرة بذرة روح الله التى أودعها فينا. هذه البذرة هى التى تحمل "جينات" كمال الصفات الإلهية (وهى ما ورد فيما يعرف بأسماء الله الحسنى فى القرآن): الصدق والعدل والحكمة و البصيرة و الرحمة والود والعزة والكبرياء والبر والشكر والحلم إلى آخر الأسماء. إذا طوّعنا أنفسنا على هذه الصفات نكون قد إستقينا الكثير من روح الله وهذه هى الخبرة الروحية فى الإسلام وعند عموم المتدينين. فالإسلام والإسلامية ليست يافطات تُرفع ليتوارى خلفها المخطئون أو المخالفون الذين غفلوا أو تقاعسوا عن الوفاء بهذا السلوك بكل ما يتطلبه من جهاد للنفس.
وبمناسبة جهاد النفس فإنه يجب التأكيد على إحدى صور هذا السلوك الربانى والتى تستلزم أعلى درجات جهاد النفس وترتبط مباشرة بواقعنا هذه الأيام، وأقصد سلوك العدل مع "الآخرين" يعنى مع من هم من خارج العشيرة. يؤكد القرآن بأمر صريح على أهمية تحقيق العدل مع من نخالفهم أو نكرههم (ولا يجرمكنم شنَئان قوم على ألا تعدلوا)، يعنى لا تدع خلافك مع غيرك أو كراهيتك له تملى عليك حكما جائرا ضده، لأن الإنحراف عن العدل فى هذه الحالة لا يعنى فقط ظلم الغير بل أيضا ظلم النفس بالمعنى الوارد أعلاه.
إن تصور البعض أنهم قد فازوا بحب الله لمجرد مواظبتهم على أداء الشعائر والتقرب إلى الله بالدعاء هو ما يحتاج إلى مراجعة. فمناط الشعائر هو الإرتقاء الروحى وهذا الإرتقاء هو السبيل للفوز بحب الله. والإرتقاء الروحى يقاس بمدى الإرتقاء بالسلوك للإقتراب من الكمال المتمثل فى صفات الله والتدهور الروحى هو العكس: يعنى السقوط فى دوائر الكذب والمراوغة والغرور والعداوة والإستكبار وما يستتبعه من ظلم الغير والنفس. أليست هذه من مخاطر الولوج فى عالم السياسة؟ ألا تكون جنة الفوز بالقيادة السياسية هى أيضا هاوية السقوط إلى ظلم النفس بالمعنى الدينى؟