تسيطر قضية العزل السياسى على المجتمع الليبى بنسبة كبيرة؛ ما جعلها قضية الليبيين الأولى هذه الأيام؛ فلا حديث عن غيرها بين كل الفئات وكل الاتجاهات السياسية والفكرية. فالمجلس الأعلى للثوار الليبيين، الذى يعتبر نفسه الجهة الشرعية الوحيدة فى البلاد، يرى أن قانون العزل السياسى يعد حقا مشروعا لحماية ثورة 17 فبراير، وأن إصداره يعد أمرا حتميا لا مساومة فيه، ويجب الإسراع إليه، وأن تصويت أعضاء البرلمان ضد أية مادة من مواد هذا القانون، يعتبر خيانة عظمى لهذه الثورة وأهدافها النبيلة، وأن أهداف الثورة لن تتحقق إلا بالقطيعة الكاملة عن منظومة الاستبداد، وإحلال ثقافة ومنهجية جديدة محلها، تؤسس لها وجوه وعقليات جديدة. الليبيون المؤيدون لقانون العزل يرون أن العزل السياسى لا يعنى التشفى ولا الانتقام، بل هو تنظيم عملية انتقال السلطة للفئات التى أطلقت الثورة، وضحّت لأجلها وتحمّلت مسئولية المواجهة الميدانية ضد النظام؛ فهى جيل مختلف ومجتمع لا ينتمى إلى النظام السابق، ويدرك مطالبه ولا يحاول تخفيف زخم الثورة التى أساسها مواجهة الفساد السياسى والاقتصادى والاجتماعى وشبكات علاقاته المعقدة المتداخلة التى لا يتوقع من المنتمين إليها -حتى لو أرادوا- مقدرة حقيقية على قيادة تغيير وإزالة ذلك التشابك فى الفساد بين السلطة والمال والاجتماع. ضغوط لتمرير العزل وظهرت فى ليبيا جماعات مختلفة تضغط بشدة على البرلمان لتمرير قانون العزل السياسى الذى ينص على عزل كل من عمل مع النظام السابق فى مواقع قيادية أو عسكرية أو أمنية، فى آخر 10 سنوات. وسيحرم القانون المنتظر كل من ارتبط بنظام القذافى من تولى منصب عام فى ليبيا. ولن يقتصر الأمر على المسئولين الكبار فى النظام، بل من المحتمل أن يشمل البيروقراطية الوسطى والعليا فى البلاد كذلك. ويرى قطاع غير قليل من الليبيين، أن صدور قانون للعزل السياسى أمر مهم، شرط أن يكون العزل على أسس موضوعية ومنطقية وبدون ظلم أو إقصاء لشرائح واسعة من المجتمع، وأن يتوافق حوله كل الليبيين، لا مجموعة دون غيرها. وهم لا يؤيدون إصدار القانون بوضعه الحالى؛ لأنه إذا حدث ذلك، فإن ثلاثة أرباع الليبيين سيكونون خارج إطار الحياة السياسية. الليبراليون يتحفظون على العزل الليبراليون الليبيون يعتقدون أن قانون العزل الذى يدعمه الإسلاميون، يقصد أساسا إبعاد محمود جبريل أول رئيس وزراء بعد الثورة فى ليبيا، الذى تهدد شعبيته الإسلاميين؛ إذ تفوق عليهم هو وكتلته الليبرالية فى أول انتخابات بعد الثورة. وتتصاعد أصوات أخرى لسياسيين ومثقفين ليبيين تطالب المدافعين عن القانون بأن يضعوا فى الاعتبار عدم تكرار التجربة العراقية الخاصة باجتثاث البعث؛ ففى محاولتها اجتثاث كل أعضاء حزب البعث التابعين للرئيس العراقى الراحل صدام حسين من الحياة العامة؛ دمرت سلطة الائتلاف المؤقتة إعادة بناء العراق أساسا، وهمّشت أقساما واسعة من المجتمع، وأشعلت الطائفية. وترى هذه الأصوات أن الحصيلة الأولى المباشرة لتطبيق قانون العزل السياسى الليبى، ستكون دفع مسئولين سابقين مؤثرين وأذكياء، وبعضهم له إمكانات كبيرة يجب أن تستفيد منها البلاد، فى ركن ناء ومعزول عن الحياة السياسية وعن الإضافة والتجديد لصالح ليبيا، كما أن المسئولين المستهدفين من قبل قانون العزل السياسى، لديهم أيضا خبرات فى الحكم بجانب معرفة فى كيفية إدارة البلاد، بما فى ذلك التعليم الحكومى والاقتصاد وبيروقراطيات إدارة النفط. وليبيا -على سبيل المثال- لديها نقص فى عدد القضاة، وتقريبا كل القضاة العاملين كان لديهم دور ما فى النظام القديم. ومن ثم، سيترك قانون العزل السياسى ليبيا مع قضاء مشلول، وبنتائج سيئة على البلاد عامة. وتنادى أصوات أخرى بأنه، بدلا من قانون العزل السياسى، يجب أن يوظف الليبيون جهودهم فى بناء قانون عدالة انتقالى شامل وشفاف، يؤمّن محاسبة فعلية وعادلة لأولئك الذين تثبت إدانتهم بارتكاب جرائم تحت حكم النظام السابق، فيما تلتئم جراح الضحايا، وفى الوقت نفسه، سوف يجنب ليبيا مزيدا من التقسيم، ويجنب البلاد صراعا مريرا جديدا. ويرى ليبيون آخرون، أن من يطلع على مسودة قانون العزل السياسى، يجد أنه لم يقتصر على السياسيين الذين تقلدوا مناصب فى عهد القذافى فقط، بل كل الكوادر التى عملت نقابيا وإداريا فى المؤسسات المختلفة أيضا؛ فالليبيون كانوا خليطا مترابطا، وكل الأسر الليبية أبناؤها يعملون فى إدارات ومؤسسات حكومية وعسكرية ونقابية؛ فهل سيُعزلون لكونهم كانوا ضمن تلك المؤسسات وكانوا يؤدون نشاطا مدنيا وحقوقيا واجتماعيا وإعلاميا؟! هل النساء اللاتى تدربن على السلاح والمشاركة فى الحياة المدنية والشعبية فى ليبيا يشملهن العزل السياسى؟ وهل الأطفال الذين كانوا دائما فى معسكرات صيفية تحت اسم معسكرات «براعم وأشبال الفاتح»، وقد صار منهم إعلاميون ومثقفون وأطباء ومهندسون وخبراء.. هل سوف يطبق عليها قانون العزل السياسى أيضا؟ القانون قد يتعرض لعدم الدستورية كما يرى قطاع من القانونيين، أن القانون عندما يطعن عليه الفلول أمام المحكمة الدستورية، ستحكم المحكمة بعدم دستوريته؛ لأنه من الناحية القانونية المجردة يخالف مبدأ الأثر الفورى للقانون؛ أى أن القانون يسرى على الوقائع والأفعال التى حدثت بعد نفاذ القانون؛ فإذا نص القانون على غير ذلك فعاقب على أفعال سبقت نفاذه كان مخالفا للدستور. هناك من يقسم المتعاملين مع نظام القذافى، أو الأزلام (الفلول) إلى قسمين: الأول الذين تلطخت أيديهم بدماء الليبيين، أو من يصنفهم القانون مجرمين، قتلوا وأفسدوا وسرقوا المال العام. والقسم الآخر يتعلق بالذين عملوا فى المؤسسات السياسية والأمنية، لكنهم لم يرتبكوا قتلا، ولم تثبت سرقةتهم الأموال العامة، رغم ولائهم المعروف لنظام القذافى. لكن الأمر لا يمكن تعميمه، حتى بالنسبة إلى المنشقين عن النظام؛ فهناك أيضا شروط للنجاة من مقصلة العزل؛ أهمها أن يكون المنشق قد أعلن عن موقفه من النظام قبل 20 فبراير 2011م، أى خاض تجربة الانشقاق والثورة فى مهدها؛ عندما لم يكن أحد يعلم أتنجح أم يتمكن النظام من سحقها؟ ليس هذا فحسب، بل إن هناك من يرى ضرورة عدم اشتمال العزل على من انشقوا فى تواريخ لاحقة حتى 19 مارس 2011م؛ حين حُرّرت مدينة بنى غازى، وسقطت أكبر كتائب القذافى. وفى المقابل، ينادى البعض بتأجيل مشروع قانون العزل السياسى إلى ما بعد مرحلة كتابة الدستور؛ لكسب خطوة إلى الأمام. ويطالب هؤلاء بالالتجاء إلى القضاء لتقديم قائمة تحوى أسماء يُشتبه فى أصحابها تورطهم فى جرائم قتل وفساد، مع تقديم معلومات حول طبيعة تلك الجرائم، وترك الساحة للقضاء لاستبعادهم سياسيا ومحاكمتهم جنائيا، بعد ثبوت إدانتهم أو العكس فى حال البراءة.