في أحد الأيام الثمانية عشر من شهر يناير عام 2011، حين كان التحرير يعج بالبشر من كل صوب وحدب ثائرين على حكم مبارك، كنت أقف مع مجموعة أصدقاء في الميدان، وإذ بي أنظر أمامي لأجد وجها في الزحام بين الملايين ينادي علي، فنظرت له، وحين تيقنت منه وجدت دموعي تسيل غصباً عني، ولساني ينطق بأمنية آه لو كان بيننا الآن، لكنت لجأت إليه ليكمل لي صياغة المجهول الذي كنا ننتظره آه.. أما الذي شاهدت وجهه في الزحام فقد كان هشام أسامة أنور عكاشة رحمه الله الذي توفي منذ شهور، وأما الذي كنت أبكي غيابه فقد كان «أباه وأبي وصديقي أسامة أنور عكاشة»، فما كانت مصر أحوج في تلك اللحظات وقبلها وبعدها لعقل وقلب ذلك الإنسان، الذي مهما عرفه الجمهور كنجم يسبق اسمه كل الأسماء على «تتر أعماله الفنية»، فإنهم لا يعرفون أسامة أنور عكاشة الذي أعرفه. «الشهد والدموع»، «ليالي الحلمية»، «أبوالعلا البشري»، «أبنائي الأعزاء شكرا»، «ضمير أبلة حكمت»، «امرأة من زمن الحب»، «عفاريت السيالة»، «زيزينيا»، «الراية البيضا»، «كتيبة الإعدام»، «أنا وأنت وبابا في المشمش»، «دماء على الأسفلت»، «المصراوية»، «منخفض الهند الموسمي»، «الناس اللي في التالت»، كل هذه الأعمال الفنية وعشرات غيرها من روايات مكتوبة ومئات من المقالات المنشورة والأحاديث المصورة، لا أظن أنها كافية ليعرف عموم الناس من يكون أسامة أنور عكاشة. لكن دعونا نبدأ بما هو معروف عن هذا الفنان الذي استطاع لأول مرة في العالم العربي أن يجعل اسم الكاتب هو النجم الأول لأي عمل فني، فكأن اسم أسامة أنور عكاشة بات ختماً لجودة العمل الذي لا يختلف حوله جمهور أو نقاد. أسامة أنور عكاشة، الذي تصادف أن يكون يوم مولده 28 يوليو، هو ذاته يوم مولدي، حتى لو باعدت السنين بين ميلادينا، رحل عن عالمنا في مثل هذا الشهر عام 2010 ليترك لنا ميراثاً من الأعمال الفنية، التي كلما مر عليها الزمن وأعدنا مشاهدتنا لها نرى فيها جمالا أكثر مما رأيناه في مشاهداتنا الأولى، كان أسامة يغزل بقلمه الشخصية المصرية على مر العصور، بأغنيائها وفقرائها وطبقتها المتوسطة، التي كان يرى فيها الأمل والرجاء، تحدث بقلمه عن الحكام والمحكومين، وتأثر بعلم الاجتماع الذي درسه وعمل به سنوات. كانت الهوية شغله الشاغل في كل أعماله، فكان مسلسل المصراوية ختامها، ولكنها كانت حاضرة في «أرابيسك» و«أبوالعلا البشري» و«زيزينيا» و«ليالي الحلمية»، كان أسامة ناصري الهوى، ولكنه في الوقت ذاته استطاع أن يسلخ نفسه عن الهوى، ليرى ما على هذه الحقبة وما لها. وما على المشاهد إلا أن يعود لمسلسل «ليالي الحلمية» بأجزائه الخمسة، ليرى تشريحاً لزمن ناصر بأحلامه، ثم بواقعه الذي عرفه المصريون، ولم يكن ناصر وحده وزمنه هو الزمن الوحيد الذي وقع في مرمى نيران عكاشة، لكن زمن السادات والرأسمالية التي بدأت تنهش في جسد الوطن كانت أيضاً عُرضة لنيران عكاشة وانتقاده، حتى وصل بنا الزمن لمبارك الذي قال في زمنه كثيراً، و«الراية البيضا» شاهدة وفيلم «كتيبة الإعدام» ومسرحية «الناس اللي في التالت»، وغيرها وغيرها من الأعمال، كلها شاهدة على شهادته على عصر مبارك. كل ما كتبت من سطور سابقة ربما يعرفها القاصي والداني، بل قد يعرفون أكثر، لأنهم مشاهدون وشاهدون على أعمال أسامة أنور عكاشة، أما أسامة أو الأستاذ كما عرفته أنا، فقد كان طفلاً كبيراً، لا يهدأ إلا وهو في شرفة منزله المطل على بحر الإسكندرية، فهناك كانت لنا جلسات، ففي الإسكندرية مارينا كان الأستاذ مختلفاً عنه في القاهرة التي تطل شرفته فيها على الأهرامات، فكأن اختلاف المكان يجعل له شخصيتين وربما أكثر، في القاهرة كان الأستاذ يبدو مثل ما يطل عليه ملك من ملوك الفراعنة مهموما بالرعية، أما فى الإسكندرية فقد كان يخلع التاج ويرتدي رداء البحر الهادر أحياناً والهادئ أحيانا أخرى. كان الأستاذ يغضب لغياب الأصدقاء الذين اعتبرني منه، ولكنه كان غضب طفل لو ربت على كتفه تجد الابتسامة والحب، كان كتف الأستاذ «مسندا لي» حين تتوالى على وجهي الصفعات في زمن ومهنة صعبة، وكان قدر اعتزازه بنفسه وقيمته لا يمانع من انتقاد، ولكن حق النقد في حياة أسامة أنور عكاشة كان فقط من حق الأحباء، أما دون ذلك فقد كان يتحول في رده على أي انتقاد إلى مهاجم شرس يسحق منتقديه. بعد أن انتهى الجزء الأول من «المصراوية» واختفى العمدة من الأحداث، قلت له إني عاشقة للعمدة، وهو أصل الأحداث، فكيف بك تخفيه وإنني سأفتقده، وسألته هل سيعود في الجزء التالي؟ فقال لى إنه لا يعرف، فالشخصيات في أعماله هي التي تذهب أو تموت أو تعود وليس هو الذي يفعل ذلك. وفي حديث بيننا قال لي إن «المصراوية» ستكون آخر أعماله، وكأنه كان يشعر بدنو الأجل، ولكني لجهلي كنت أراه بعيداً. رحل الأستاذ ولم يشهد ثورة الشعب التي طالما حكى عنها، رحل من علمني كثيرا عن العيش والحرية والعدالة الاجتماعية، رحل وما أحوج مصر في حيرتها لأسامة أنور عكاشة، وما أحوجني أنا إليه في زمن الحيرة الكبرى.