لا أتفق مع الأستاذ محمد حسنين هيكل فيما ذهب إليه من تقييم لثروة مبارك بالخارج. والسبب أن هذا الموضوع محاط بستار حديدي ويكتنفه غموض كثيف ولا يستطيع فرد لا يملك أجهزة لها سلطة التفتيش وصلاحية الكشف عن حسابات البنوك أن يخترقه أو يعرف عنه شيئا. فمبارك ورجاله لم يكونوا من السذاجة بحيث يفتحون حسابات مكشوفة باسمه وهو اسم معروف عالميا, وأي حسابات يملكها آل مبارك بالخارج ستكون محمية بحجب من السرية وتحتاج لجهود طويلة من أجهزة الدولة لكشفها. لكن ما لا يريحني في الضجة التي أثيرت حول تصريحات هيكل واستدعائه لتفسيرها والتنبيه عليه بعدم تكرار الحديث في هذا الموضوع هو السوابق الفاضحة في الصحافة والإعلام التي تناولت ثروات رموز النظام السابق بمن فيهم مبارك نفسه من قبل, ولم يحرك أحد ساكنا ولم نسمع عن أي ردود أفعال من قبل أي جهة من الجهات لكبح جماح من صالوا وجالوا في هذا الموضوع دون أن يعبأوا بتقديم أول خيط لبداية دليل علي دعاواهم. ففي الأيام التالية للثورة قرأنا العجب العجاب في الصحافة وكأن غطاء ثقيلا قد انزاح عن الأقلام, فأصبحت تكتب ما تشتهي في غياب أي محاسبة من أي نوع. وكان حديث الساعة المفضل الذي استأثر بالجانب الأكبر من الاهتمام يتعلق بثروات من ألقي القبض عليهم من المسئولين التي قدرت في الأيام الأولي بالملايين ثم قفزت بسرعة البرق إلي مئات الملايين. لكن الملايين سرعان ما لم تعد تكفي لإشباع النهم العام الذي تولد عن نشر حكايات الثروات فبدأ الحديث عن المليارات. ومع مرور الأيام لم تعد حتي المليارات صادمة بما فيه الكفاية وظهر من وجد في نفسه القدرة علي تحطيم جميع الأرقام القياسية التي سجلت قبلها فأتحفنا بمصطلح جديد علي قاموسنا الحسابي هو تلرليون والأرجح أنه رقم لا يعرف معناه غالبية المصريين وأنا منهم: أهو مائة مليار أم ألف مليار أم مليون مليار! وأطلق البعض العنان لخيالهم دون رادع أو حسيب وتحول الموضوع إلي مزايدة علنية يكسب فيها من يفجر أعلي الأرقام. وظل الإعلام يخصص ساعات لتقدير حجم ثروات المسئولين السابقين وبسطت الصحافة صفحات كاملة وعناوين بارزة بأرقام فلكية. وقيل في البداية إن وزير الإسكان السابق ثروته4 مليارات جنيه. وفي اليوم التالي تضخمت إلي8 مليارات علي ما أذكر. ثم وجدت جريدة أخري أن هذا لا يكفي فقفزت بالثروة إلي16 مليارا. الشيء نفسه بالنسبة لوزير السياحة وغيره من المسئولين. فكانت الأرقام تتضخم وتتصاعد وترتفع لعنان السماء لإشباع فضول الجمهور وإثارة اهتمامه. لكن الحديث عن هذه الثروات كان أشبه بمن يقترب بعود كبريت مشتعل من برميل بنزين, فكانت نتيجة هذه الحملة المستعرة أن انفجر بركان من الغضب في قلوب المصريين من كل الفئات. ففي الوقت الذي كانت تعاني فيه الغالبية العظمي من أبناء الشعب من الغلاء الفاحش وتنوء تحت عبء صعوبة المعيشة وتلهث وراء لقمة العيش كان هؤلاء الوزراء والكبراء يتمرغون في النعيم والعسل وينهبون مال الشعب ويجمعون تلك الثروات الفاحشة. وكانت النتيجة المنطقية لهذه المزايدات والتضخم المتنامي في الأرقام أن اجتاح الشارع المصري إحساس مضاعف بالظلم وظهرت المطالب الفئوية والإضرابات والاعتصامات, وتفجرت بجميع المصالح الحكومية وغير الحكومية موجة من المطالبات تتعلق بالعلاوات والمكافآت والتعيين بعد أن أصيب الكل بالحنق والإحباط بسبب الحديث عن ثروات المسئولين السابقين والمبالغة والتهويل فيها. وبالإضافة إلي حالة السخط العام فإن الكلام عن تلك الثروات وإمكانية استعادتها قد أشعل آمالا واسعة في نفوس الكثيرين. فإذا كانت القضية هي أن حفنة من الأشخاص قد نهبوا خيرات البلاد فمن المنطقي أن يعم الخير ويعود الاقتصاد إلي ما كان عليه بعد أن ألقي القبض علي هؤلاء وصارت ثرواتهم ملكا للشعب كما تصور الكثيرون. بالقدر نفسه الذي تناول فيه البعض بأسلوب غير مسئول ثروات المسئولين السابقين شهدنا حالة من التورم في الأرقام وسلسلة من المزايدات عند تناول الحديث عن أراضي الدولة وتخصيصها أو بيعها بثمن بخس. فبدأ الأمر بآلاف الأمتار ثم مئات الآلاف حتي وصلنا إلي ملايين الأمتار قيل إنه تم توزيعها دون وجه حق علي الخاصة وأصحاب الحظوة. ولا شك عندي أن هناك تجاوزات وعمليات تربح واستغلال نفوذ قام بها رموز النظام الفاسد السابق علي حساب مصالح الشعب, لكن الأرقام التي تم تفجيرها تتناقض مع أبسط قواعد المنطق. ولو أن أحدا أمسك بالورقة والقلم وقام بعملية تجميع لهذه الأرقام التي تناثرت في الصحافة ووسائل الإعلام عن كم الاراضي التي تم توزيعها لوصلنا إلي رقم يتجاوز مساحة مصر الكلية, وربما اضطررنا لاقتطاع أجزاء من ليبيا والسودان لسد هذا العجز في المزايدات والمبالغات. وعندما ثارت شائعة بأن ثروة مبارك تتراوح ما بين40 و70 مليار دولار تفتق ذهن أحدهم عن أن هذا الرقم أقل من الحقيقة وأتحفنا برقم تلرليون جنيه موزعة علي حسابات مختلفة في بنوك العالم. ولم تهتم أي جهة رسمية أو غير رسمية بسؤال هذا الشخص عن مصدر معلوماته ولم نسمع من يعترض ويتهمه بعدم الجدية أو بالتجني علي الرئيس السابق. والحديث عن الثروات المهربة للخارج وضرورة استردادها لم يثر السخط والحنق في صدور المصريين فحسب, بل أشعل آمالا واسعة بسداد ديون مصر كافة وشاع في الشارع المصري أن ضخ هذه الأموال في البلاد سيؤدي إلي طفرة اقتصادية كبيرة وانتعاشة لم تعرفها مصر في تاريخها الحديث. وتمخصت حالة الفوران النفسي عن فكرة تبدو منطقية, حيث بدأ الكثيرون يحسبون نصيب كل مصري من هذه الكنوز الضالة التي ستعود إلي حظيرة الشعب وكأن الموضوع تركة توزع علي المنتفعين بها. وقيل إن كل مصري سيحصل علي ربع مليون جنيه ثم قيل بل نصف مليون وقيل بل مليون. ولم تعد القضية الأساسية هي أن مبارك كان يترأس نظاما ديكتاتوريا لا يستمع إلي صوت الشعب ولا أن الحكومات المتتالية كانت فاشلة في إدارتها للبلاد ولا أن مباحث أمن الدولة كانت تقمع الناس وتكمم الأفواه.. فقد تلخصت مشكلة الحكم السابق في أن بعض رموزه نهبوا البلد وسرقوا الأموال ولولا هذا فلم تكن هناك أي مشكلة في حكم مبارك أو هكذا بدت الأمور في الفترة الأولي التي شهدت تسابقا علي فضائح المسئولين السابقين وثرواتهم من أجل جذب انتباه القارئ وزيادة أرقام التوزيع. وبالتأكيد أن هذا الانفلات الإعلامي كان له ضرر بالغ علي مجريات الأمور بعد الثورة ولا نزال نعاني من تبعاته حتي الآن. والسؤال هو: لماذا يمنع هيكل ذاته من الإدلاء بمعلومات حتي إن كانت غير مؤكدة في الوقت الذي لا يكف فيه تلاميذ تلاميذه عن إطلاق الفتاوي والأرقام والمعلومات غير المدعمة بالأدلة والقرائن؟ نقلا عن جرديدة الأهرام المصرية