تعودت منذ شبابي المبكر. كلما ضاق صدري بمشاكل الناس والحياة. أن أذهب الي البحر لأغتسل بمرأي مياهه التي لا تيأس ابداً من المجئ والرواح. واطير افكاري مع نسماته الرقيقة او رياحة العاصفة ملقيا له بما يثقل قلبي من الهموم وشدني اليه ذلك الجزء الذي وقفت فيه "قلعة قايتباي" منذ أكثر من ألف عام. تنتظر أعداء لا يجيئون ابداً. في ساحة القلعة التي رصفت ارضها بالأحجار العتيقة. وكنت كلما ذهبت إلي هذه القلعة التاريخية زرت بقايا مسجدها بالطابق الأول. وطفت بحجرات وممرات الطابق الثاني. وبقيت طويلا في اطلال مجلس السلطان بالطابق الثالث الدائري الشكل. ثم اصعد الي ما بقي من يرجها الكبير. متنقلا بين الأبراج النصف دائرية الواقفة في أركانه الأربعة. وبعدها انزل الي الساحة الفسيحة المربعة. فأجلس محتمياً بالسورين المحيطين بالقلعة كالسوار. في ذات غروب. كنت في جلستي المعتادة بساحة القلعة. ويبدو انني كنت غارقا في بحار افكاري وخيالاتي. فلم ارها ولم احس بها وهي تجلس علي طرف الحجر الكبير الذي كنت احتله مع وحدتي. افقت من شرودي علي صوتها الهامس كزقزقة العصفور. لاري يدها الرقيقة البيضاء ممدوة نحوي وهي تقول: من فضلك.. هل تسمح باعطائي هذه المجلة لأقرأها ؟؟! نظرت الي يدها. والي وجهها. ودون ان انطق بحرف واحد. اعطيتها المجلة لأغرق ثانية في بحار وحدتي وصمتي. تنبهت مرة أخري علي صوتها ويدها الممدودة لي بمجلتي. انتهزت فرصة التقاء عينيها بعيني. فقالت بسرعة قبل ان زدير وجهي عنها: أكثر من ساعة مضت وانت صامت تماماً.. هل لي الن اعرف فيم تفكر؟؟! افكر في اللاشيء.. أو علي الأصح أنا لا زفكر في اي شيء... الم تسمع العبارة الشهيرة: أنا أفكر. أذن أنا موجود؟؟! ديكارت فيلسوف وككل الفلاسفة لا يجيد الا الكلام.. اليست لك اذن فلسفة لحياتك؟؟ الحياة لا تحتاج للفلسفة... والفلاسفة؟؟! اكرههم. لأنهم يجعلون من الحبة قبة. لم يسمعك الدكتور "لطفي"؟! هل هو خطيبك؟؟ انه استاذنا الذي بح صوته ليقنعنا بأهمية الفلسفة. وعظمة وحمة الفلاسفة... أنت اذن طالبة بالسنة الأولي في كلية الآداب؟! هل تراني صغيرة هكذا؟!! لقد حصلت علي الليسانس منذ شهرين... ارجو الا يكون كلامي قد اغضبك... لم اكن اعرف. لا داعي للأسف هي وجهة نظرك التي احترمها حتي ولو اختلفت معها.. عذري انني مهندس والهندسة التي درستها واعمل بها لا تعترف بالفلسفة... علمنا الدكتور "لطفي" ان لا شيء في هذه الحياة الدنيا الا وله فلسفته.. ولو انك بحثت لوجدت ان للهندسة ايضا فلسفتها الخفية.... جمال عينيك وبريقهما المشابه لبريق وجمال النجوم يكاد يقنعني بكلامك.. مهندس؟! وشاعر ايضاً... الشعر هو هندسة الخيال. والهندسة هي شعر الواقع... وكلامك هذا هو الفسفة بعينها ؟؟!! لا اعرف كيف تعارفنا بسرعة. واصبحنا وكأننا اصدقاء منذ سنوات طويلة تحدثنا في كل شيء يمكن ان نتحدث فيه وعنه. واخذنا نلتقي كل يوم في نفس لاموعد تقريباً. لم تكن تفارقني ابداً. لأنني كنت أحمل طيفها بقلبي اينما ذهبت. وقبل ان ينقضي شهر واحد علي تعارفنا ذهبت الي مكاننا المعتاد. في نفس المياعد. تأخرت. وطال تأخرها بأكثر مما يجب لما انتصف الليل تقريباً ولم تأت. شعرت برغبة شديدة في البكاء حتي الموت.... طوال السنوات الطويلة التي مضت. واظبت علي المجيء الي هذا المكان لعلها تأتي اليها يوما.. لكن القلعة بنيت للدفاع عن الإسكندرية. لم تستطع الدفاع عن حبي الوليد ضد مشاعر الفراق الموحشة.