دنيا الفتوات في أعمالي. استعادة لذكريات أبي عن فتوات الاسكندرية. شكلوا معلما مهما في حياة المدينة. أزعج الناس بما كانوا يفرضون من اتاوات وعمليات ابتزاز ومعارك شبه يومية بين فتوة حي ما. وفتوة حي آخر. وتسيل الدماء. وتدمر الممتلكات. ويدفع الثمن بعامة تجار المدينة وناسها العاديون. ويحيا الجميع في قلق دائم. أثار الفتوات الذعر في بحري بمشاجراتهم التي لم تكن تنتهي بالسيوف والأسلحة البيضاء. وتتحطم بالتالي محال المنطقة والسيارات الواقفة علي جوانب الطرق. فضلا عن الخطر الذي يتهدد السكان والمارة. لكن أفعال فتوات الاسكندرية امتدت - في أحيان كثيرة - إلي سلطة الاحتلال الانجليزي. يترصدون لجنوده في شوارع المدينة. ويسرقون معسكراته. أذكر كالطيف - من طفولتي الباكرة - مجموعة من الفتوات قفز أحدهم في سيارة نقل لجنود الانجليز تحمل كميات من الملابس. وقذف بها إلي زملائه الذين انطلقوا وراء السيارة. حتي نفد ما كان بها من ثياب. كانت شرفة بيتنا ونوافذه الخلفية تطل علي ميدان الخمس فوانيس وجامع سيدي علي تمراز. شهدت في الميدان آخر معارك فتوات بحري. تطايرت فيها كراسي. وتناطحت شوم ونبابيت. وسالت دماء. وسقط صرعي وجرحي. وشال البوليس الباقين إلي حيث غابوا عن شوارع بحري. وحين بدأت في كتابة "رباعية بحري" حاولت أن أقدم عالم الفتوات. تعرفت إليه من خلال الذكريات القديمة لأبي. والقريبة لأبناء بحري الذين عاشوا فترة ما بين الحربين. وكان فتوات نجيب محفوظ دافعا لأن أكتب عن فتوات الاسكندرية. رغم اختلاف المكان والزمان. وطبيعة الشخصيات. ومهنهم أيضا! كانت "الفتونة" هي العمل الوحيد الذي مارسه فتوات نجيب محفوظ. عاشوا علي البلطجة. وفرض الاتاوات. وافتعال المشاجرات. وخوضها لحساب الآخرين. في حين انه كان لغالبية فتوات الاسكندرية مهنهم التي تكسبوا منها. أما الفتونة فلم تكن سوي هواية. وسيلة لاثبات الشهامة والنخوة والمروءة والجدعنة. وكان عمل فتوات نجيب محفوظ في غيبة من السلطة. شغلهم الهرب والتخفي واللواذ بالأماكن النائية. أما فتوات الاسكندرية فقد كان تحدي سلطة الاحتلال وحكومات الأقلية. حرصهم الأول. وكانت معاركهم في الساحات والميادين وعلي القهاوي. وأعلنوا الاحتقار لمن جعل الفتونة مهنته. وكان أبلغ ما يعتز به حميدو فارس - مثلا - ورواه الذين فوجئوا بالمشهد. أنه كبس طربوش المحافظ علي رأسه. لسبب تصور أنه يمس كرامته. وأفدت من الحادثة في روايتي "الأسوار". بيومي الدكر الذي كبس طربوش مدير المديرية علي رأسه. وروي لي أبي كذلك. الكثير من فتوات الاسكندرية. غالبيتهم - أو أكثرهم شهرة - من بحري. حيث قضيت طفولتي وصباي: حميدو فارس وأبو خطوة والسكران. وغيرهم ممن تغيرت - بغيابهم في أعقاب الحرب العالمية الثانية - صورة الحياة في الاسكندرية. وبالذات في أحيائها الوطنية.