"أمي" ليس من أفلام الأكشن.. وليست الإثارة من ضمن عناصره العادية هي ما يشكل جوهر ما أثارني تخيل فيلماً يحمل عنوان "أمي" "My Mother" ماذا تتوقع؟؟! ميلودراما؟ عمل اجتماعي يتناول الحياة الأسرية؟ إنه "العادي" غير العادي. بقول آخر وبعيداً عن الحذلقة. الحكاية البسيطة أو التي تبدو بسيطة ثم تحرك بيسر وسلاسة إلي منطقة من العواطف الدافئة حيث تتشابك الخيوط وتتكامل لترسم قطعة من حياة مألوفة تتوحد معها كمتفرج امرأة في منتصف العمر ولكنها ليست كأي إمرأة إلا في مشاعرها كابنة تعشق أمها وترتعد من فكرة اقتراب أجلها وتشعر بالذنب حيالها إنها فنانة ومخرجة سينمائية وليست كأي مخرجة أيضا.. فالفيلم الذي تنشغل بإخراجه يعالج حقوق العمال. وحق الإنسان في العمل ووحشية الرأسمالي حين يقرر بقلب بارد أن يستغني عن نسبة كبيرة من القوة العاملة في مصنعه لأسباب اقتصادية. إنها أيضا أم لابنة مراهقة تعيش سراً أزمة علاقة غير متحققه مع زميل في مثل عمرها وتعاني من انشغال الأم بمشروعها السينمائي. وغياب الجدة العجوز المريضة التي انتقلت إلي المستشفي تاركة عالمها الفريد في منزل توحي تفاصيله الصغيرة بالحميمة. البطلة الرئيسية تعيش بدورها أزمة زواج فاشل وعلاقة حب علي وشك الانتهاء. "أمي" باختصار يدور حول الأزمة الشخصية للمخرجة السينمائية "مرجريتا" التي تحمل أثقالاً من المشاعر المتضاربة من بينها خيبة الأمل كصانعة فيلم تفقد السيطرة علي مشروع إخراجه والفيلم يناقش أزمة اجتماعية.. تفقد أيضا السيطرة علي مشروع الزواج والحب وعلي موقعها كأم لفتاة صغيرة فقدت الملاذ العاطفي الحقيقي بعد مرض الجدة.. والأهم أنها تفقد "الوتد" الذي يضبط بوصلة حياتها كامرأة وابنة وإنسانة تشعر بالتقصير.. وهذا الفيلم البديع الذي سبق عرضه في مهرجان كان السينمائي الأخير في مايو الماضي اختارته المخرجة ماريان خوري يوم الاربعاء ليكون فيلم الافتتاح للدورة الثامنة لبانوراما الفيلم الأوروبي التي تتولي بنجاح تنظيمها منذ ثمانية أعوام "25 نوفمبر 5 ديسمبر". والفيلم من تأليف وإخراج وتمثيل الفنان الإيطالي المبدع ناني موريتو وتلعب البطولة المركزية فيه الممثلة الإيطالية مارجريتا باي مع الممثل الإيطالي جون تسيرتو في دور صاحب المصنع الأمريكي المتعالي الغليظ والساخر وغير الموهوب والذي يمنح الفيلم لحظات من الاسترخاء الكوميدي وسط شحنات من التوتر ومشاعر الاحباط. "الأم" في حبكة الفيلم رغم أنها شخصية ثانوية إلا أنها تمثل المركز في البنية العاطفية والشعورية للفيلم وفي حياة مرجريتا وشقيقها "فيتوريو" الذي يلعب دوره ناني موريتو وهو يعود بهذا الفيلم إلي الموضوعات المندرجة تحت السير الذاتية فهنا تدور الأزمة حول فقدان الأم بعد فقد الابن "هجرة الابن" ومثل أعمال "موريتي" لا يفتقد العمل القوة والرصانة والدقة والحساسية البالعة في أسلوب رسم الشخصيات والعلاقات الإنسانية داخل الأسرة فالاخت وشقيقتها يراقبان بشحنة دقيقة من الانفعالات أمهما المريضة وهي تفارق الحياة تدريجياً بهدوء وبسلام علي مدي أسابيع قليلة وانعكاس ذلك علي أعصاب الابنة التي تقوم بعمل فيلم اجتماعي عن العمال توشك علي الانتهاء منه وتقاوم محنتها الشخصية حتي لا تفشل في انجازه. وفي نفس الوقت تعاني من عقدة الذنب إزاء الأم والابنة. الفيلم متحرر من الصدمة القوية التي يسببها فقدان حياة الابن في فيلمه الرائع "حجرة الابن" الذي حصل علي السعفة الذهبية عام 2001 وأصبح يمثل علامة بارزة في مشوار موريتي. ولكنه لا يقل تأثيراً فالواضح أن "الأسرة" و"الأم" علي نحو خاص من الموضوعات الحساسة بالنسبة للإيطاليين وموريتي كمؤلف للأفلام وليس فقط كمخرج يمتلك الحساسية الفنية والذهنية القادرة علي سبر اغوار موضوعات ذات ذائقة خاصة جداً ثقافياً واجتماعياً في إيطاليا. وبالمناسبة موضوعاته من النوع الذي يشتبك عاطفياً ومزاجياً مع الجمهور المصري رغم عدم عرضها تجارياً إلا في المناسبات الثقافية الكبيرة مثل المهرجانات السينمائية وبانوراما الفيلم الأوروبي. بشكل عام فإن نوعية أفلام نينو موريتي تتسم بقبول عالمي وبالذات أفلامه التي تدور حول موضوعات تدخل فيها الأسرة كمكون أساسي وحاسته الكوميدية تجد قبولاً وتجاوباً مع جماهير السينما في العالم علي سبيل المثال فيلم "لدينا بابا" "We Have Pope" وكذلك شخصيته الإنسانية المحملة بمشاعر الحزن الممزوج بالشفقة والتعاطف والتي تحقق تجاوباً تلقائياً كما في فيلمه "حجرة الابن" وهذا الفيلم "أمي" الذي حظينا بمشاهدته في القاهرة بعد عرضه في كان. الأداء التمثيلي للممثلة "مرجريتا باي" لافت للنظر جداً وملهم انه المعادل الموضوعي البصري لنوع الانفعالات التي تعبر عن التوتر والاحباط والأسي والتعاطف والخوف العارم الذي يتحول في بعض مشاهد من الفيلم إلي "كابوس" يجعلها تري شقتها وقد أغرقتها المياه وأغرقت الكثير من التفاصيل التي تحتويها.. أيضا أداء الممثلة الفذ في دور الأم الجدة التي لم تبرح السرير ومع ذلك رسمت أثناء رقدتها تضاريس المشاعر التي سكنت وجدانها أولاً كجدة ومعلمة لها تلاميذ ومريدون وأناس شعروا بحجم الخسارة حين فارقت الحياة.. ونتيو موريتي نفسه فد دور "جيوفاني" شقيق "مرجريتا" والابن العجوز "لادا" والذي لم يتزوج ولديه انجذاب عاطفي شديد لامه واحساس مفرط بالخسارة لفراقها لدرجة جعلته يستقيل من عمله الناجح كمهندس.. أيضا الابنة المراهقة الصغيرة "ليفيا" التي تكافح مع اللغة اللاتينية التي تعلمها لها الجدة المريضة والتي بدورها تشعر بالخسارة والحزن الهائل لفراق جدتها.. ثلاثة أجيال تتكامل في حبكة موزونة فكل واحد من الأسرة التي ظهرت في فيلم "أمي لديه "كدماته" الشعورية وكل واحد لديه تركيبته الإنسانية الفريدة فلا تملك أمام أي منهم غير التصديق.. إنهم أناس "عاديون" ومع ذلك ليسوا كذلك من فرط الاحساس بأنك أمام شخصيات تم نحتهم بدقة وبألوان متداخلة ومليئة بالظلال. ولا تملك إلا التفاعل معها والاستغراق في حكايتها والتألم في نهاية "الحدوتة" وكأنك كنت أحد الشخصيات اللاعبة فيها. وفيلم "أمي" لا يعتبر الفيلم الوحيد الذي يمتلك هذه القدرة علي إثارة المشاعر الإنسانية التي أصبحنا نعتبرها في ظل ما يدور في عالمنا من توترات وعنف وحشي نعتبرها الملاذ الذي يعيد التوازن للفرد وتحول دون التوهان بعيداً عن مرفأ الأسرة والشقيق والأم والابنة. و"تضم البانوراما أكثر من 60 فيلماً منتقاة من القارة العهجوز" حسب ما جاء في مقدمة الكتيب الذي صدر عن منظمي هذه المناسبة والأفلام تتنوع ما بين الروائي والوثائقي والقصير. وبانوراما الفيلم الأوروبي غيرت أماكن عرضها هذه المرة وأصبحت تعرض بأربع قاعات عرض بالقاهرة هي تحديداً سينما "زاوية" وسينما "كريم" بوسط القاهرة وسينما "بلازا" بالسادس من أكتوبر وسينما "بوينت 90" بمنطقة التجمع مما يعني أنها تحقق تمدداً جغرافياً إلي جانب تمددها وتأثيرها الجماهيري خاصة إذا امتد نطاق عروضها إلي خارج القاهرة من خلال عروض خاصة تقام في الإسكندرية والمنيا وطنطا وهذا "اللاتمركز" يعتبر جزءاً من جهود القائمين علي "البانوراما" من أجل توسيع انتشارها والمساهمة في تعزيز الثقافة السينمائية بجميع أنحاء مصر. وتتشعب أفلام البانوراما لتضم نماذج من سينما منطقة البلقان التي مزقتها الحروب والانقسامات العرقية وهي سينما تتميز بالثراء والحس الإنساني ومنها فيلم "المخيم" للمخرج جوران رادوفانوفيتش والذي رشحته صربيا لجوائز الاوسكار لعام 2016 و"الشمس العالية" لملخرج الكرواتي الشهير داليبور ماتانيتش اللذان يقدمان نظرة عامة ومؤثرة علي الواقعين التاريخي والمعاصر للمنطقة. وهناك أيضا الانتاج الأوروبي المتميز مثل فيلم "قانون السوق" بطولة فانسان لاندون الذي حصل عن أدائه بالفيلم علي جائزة أفضل ممثل بمهرجان كان السينمائي. وفيلم ماتيو جارون الملحمي الخيالي بعنوان "حكاية الحكايات" وفيلم "45 عاماًَ" بطولة الرائعة شارلوت رامبلنج وفيلم فيكتوريا الذي يتكون من لقطة واحدة مبهرة تطول لأكثر من ساعتين. ** بانوراما الفيلم الأوروبي كائن ثقافي يكبر ويتمدد وينتشر بالضرورة وسط جماهير تتعرف علي هذه النماذج من الأفلام لأول مرة ربما.. ولاشك أننا في حاجة إلي دعم مثل هذه الفاعليات خاصة أنها لا تكلف ميزانية الدولة ولا تمثل مجرد "سبوبة" لغير المؤهلين للقيام بهذا الدور الثقافي.