فى صالة النادى الاجتماعى ووسط هذا الحشد الكبير من الأعضاء التقيا بمحض الصدفة ، حسن وهشام صديقان منذ زمن بعيد ، كانت تجمعهما دكة الفصل وما لبثا أن تفرقا كل إلى سبيله ، سافر هشام إلى لندن للعمل وبقى حسن فى بلده ولم يغادر . اعتلت الشيبة شعر حسن المهندس ، أكل منه الدهر وشرب كما يقول المثل ، لكنه لا يزال يتمسك بروح الشباب مؤمنا بأن سنوات العمر مهما جرت وخلفت من التجاعيد على الوجه ، فإن شباب القلب هو الأبقى ، وكما قال العقاد : لا يبدأ الموت إلا حين يموت إحساسنا بالحياة . اكتسى وجه هشام بفرحة من وجد ضالته حين رأى حسن ، صديق العمر والطفولة والدراسة ، تعانقا ولم يمنع الفارق بينهما فى الطول من أن يلتصق جسد أحدهما بالآخر فى حب ، كان هشام أطول من حسن بعدة سنتيمترات ، وكانت تلك السنتيمترات مثار دعابات الصديقين الدائمة ، حسن يعايره بالطول وهشام يعايره بالقصر ، ولم تشفع محافظة حسن على لياقته البدنية أن تعفيه من تريقة هشام وسخريته . اختصر العناق بينهما الذى استمر لدقائق كثيرا من الكلمات ، لكن تلونت نبرة صوت هشام بمشاعر حب طفولى وكأنه يستدعى من الذاكرة أياما من طفولته وقال : أنا مش مصدق أنى شوفتك ، بادله حسن حبا بحب : أنا كمان مش مصدق . كانت المرة الأخيرة التى تبادلا فيها التحية فى صالة النادى الاجتماعى نفسها منذ أكثر من خمسة وعشرين عاما ، كان كلاهما خريجا حديثا فى الجامعة، تخرج حسن فى كلية الهندسة فارتبط به لقب حسن المهندس ، وتخرج هشام فى كلية الألسن وكان يرغب فى السفر للخارج ، وعمل حسن مهندسا بالفعل وتزوج ، وسافر هشام إلى لندن وتزوج وانقطعت أخبار كل منهما عن الآخر. سحب هشام يد حسن بحميمية ودعاه للجلوس جانبا وبادره : الخمسة وعشرين سنة كأنها دقايق ، لسه زى ما انت يا حسن ما اتغيرتش . ضحك حسن من قلبه : وهو انت اللى اتغيرت يا هشام ؟ ، ماشاء الله عليك ، طول عمرك واخد بالك من صحتك ، تاتش وود ، انا بس اللى الشعرتين البيض ظهروا عندى وانت لسه . ضحك هشام من قلبه أيضا : مين اللى قال ، أنا بصراحة باصبغ ، بس ما تقولش لحد . أخذت الصديقين نوبة ضحك هسيتيرى أعادا معها ما كان بينهما من عمر وذكريات ، تبادل كل منهما احتساء كأس الحب والمشاعر الصادقة تجاه الآخر ، اتفقا على أن يلتيقا ثانية ، وأن يتواصلا عبر المحمول والواتس أب والفيس بوك والنادى ، العالم تغير كثيرا وظهر من الوسائل ما يختصر الوقت والمسافات ، ومن التخلف والانعزال والانطواء أن يقطع الإنسان اتصاله بمن يحب . بدا الاقتراب الحديث بينهما منفذا ومنقذا لكليهما ، كان كل منهما يريد أن يجعل من الآخر الأذن التى تنصت إلى أوجاعه ، والقلب الذى يفرح لأفراحه ، حتى صار موعد لقائهما ثابتا كل أسبوع ، يتفرغ كل منهما له ، حتى وإن كان وراءه مشاغل الدنيا . فى جلسة ليلية خلت من الضوضاء وعلى إحدى المراكب النيلية ، تنسم الصديقان نسمات منعشة استدرت عطف كل منهما ليبدأ بالشكوى ، تساءل حسن وصوت أم كلثوم يهدهد الروح وهى تنشد أنا وإنت ظلمنا الحب بإيدينا : ممكن ده يحصل ؟ . أجاب هشام وكأنه تلقى طوقا للنجاة : طبعا ، ده هو ده اللى دايما بيحصل . طيب ازاى ؟ ، اللى أعرفه أن واحد من الطرفين يمكن يظلم والتانى يسامح . ده كان زمان أيام ما كانت المرأة بتنظر لشريك حياتها على أنه محور الحياة بالنسبة لها ، أما دلوقت فمن ساعة ما نادوا بالمساواة وحكاية تمكين المرأة من أجل الدفاع عن قضاياها أصبح صوتها أعلى ، وكرامتها وكبرياءها فى المقدمة ، وكانت النتيجة إن البيوت اتخربت ، ولو استمرت الحياة ، فعلى أقل تقدير مافيش سعادة أو تواصل بين الطرفين ، كل منهما ينهل من الوحدة . جاءت الجملة الأخيرة على لسان هشام بأداء إذاعى فصيح ، مما استدعى موجة من الضحك شارك فيها الصديقان ولم تنته إلا على صوت المراكبى وهو يقول منبها : نتحرك يا بهوات ؟ . أشار هشام إلى المراكبى بالموافقة وتحركت المركب بهما تتهادى وتتمخطر على صفحة النيل ، ورآها هشام فرصة لأن يفتح مع صديقه موضوعا كان يلح عليه كثيرا لكنه كان يمتنع عن البوح فى اللحظات الأخيرة ، كانت طبيعته تغلبه فهو لا يجيد الشكوى وتعود أن يحتفظ لنفسه بأسراره وأوجاعه ، والغريب أن الإحساس نفسه خامر حسن ، باح كل منهما للآخر . قال هشام : خلينى احكى لك . رد حسن بابتسامة : ده انا اللى عاوز احكى لك . ضحك الصديقان وانطلق حسن فى الكلام وكأن طاقة سحرية انفجرت داخله ، وكانت الكلمات تتسابق إلى الخروج : أنت يمكن تشوف مشكلتى عادية وبتحصل كتير ، بس انا وصلت لقناعة بأن مشكلتى مالهاش حل ، من كتر ما جربت الحلول ومش نافع . أضاف حسن بعد تنهيدة حارقة خرجت مسرعة من صدره ، بينما هشام ينصت جيدا دون أن يعلق : إحنا بقالنا أكتر من 15 سنة متجوزين ، ماافتكرش أيام حلوة عشناها إلا حاجة كده تتعد على الصوابع ، طول الوقت فى خلاف ، ولما أزعل تلاقيها أخدت جنب وما عندهاش مانع تفضل شهر شهرين على ده الحال ، لحد ما اصبح الحوار بينا منعدم ، مش موجود ، أنا أعرف أن بديهيات العلاقات الانسانية إنك لما تكون بتتعامل مع حد يعز عليك ولقيته أخد جنب منك ، أكيد حاتسأله عن اللى مزعله ، تخيل ده فى قاموسها مش موجود ، وبعدين الأصعب من غياب لغة الحوار بينا ان مشاعرها باردة جدا تجاهى ، ما زالت لحد دلوقت اهلها اهم منى فى حياتها وانتماءها لهم اكبر من انتمائها لى ، يبقى الحياة ازاى بالوضع ده تستمر ؟ ، انا خلاص وصلت لمرحلة تكبير الدماغ وبافكر أصنع لنفسى حياة موازية ، وطظ بقه فى أى حاجة ، ما بقاش من العمر أكتر من اللى فات . ضرب هشام كفا بكف ، تعملق الاندهاش داخله كأنه مارد خرج لتوه من القمقم ، ثم ضحك ضحكة عالية انتبه لها المراكبى الذى لم يكن رده عليها إلا بضحكة مثيلة ، الضحك حالة جماعية ، قال لاهثا : تصدق بقه أنا عكسك تماما ، أنت بتعانى من جمود المشاعر وبرود الأحاسيس وأنا بعانى من التهاب المشاعر وسيولة الأحاسيس . بادل حسن بكفه كف هشام بخبطة كالتى تحدث بين أى اثنين حينا يجمعهما الشعور باتفاق ما ، وصرخ حسن بصوت أجش متحسرا: طيب يا عم ما تدينى شوية من اللى عندك . ضحك الصديقان وأضاف حسن : لما انت عندك زيادة بالشكل ده ، مش المفروض برضه المليان يكب على الفاضى . رد هشام مستهجنا : يكب على الفاضى ؟ ، أنت اتعلمت المستوى البلدى ده فى الكلام منين ؟ ، بذمتك انت حسن المهندس اللى كنا بنضرب بكلامه المثل . تواصل حسن مع هشام وهو ذلك الصديق الذى تعود أن يقبل بسعة صدر ورحابة انتقاد صديقه وسأله : انت بتتكلم بجد ؟ ، وهو ده لو كان حاصل تبقى مشكلة يا هشام ؟ . أجاب هشام بجدية : شوف يا حسن ، انا عرفت مراتى واتجوزتها بنفس الطريقة اللى افتكر انك اتجوزت بيها ، الطريقة التقليدية ، والعشرة بينا فشلت فى انها تفهم طباعى ، وهى من وجهة نظرها أنه لما تغرقنى فى الحب حاكون متشبع به وعمرى ما حابص بره ، ومش واخدة بالها انها بتخنقنى ، لما غرقتنى اتخنقت ، فاهم ؟ . بدا ما يقوله هشام فى رأى حسن نوعا من الترف ، تمنى أن تكون زوجته بالمثل ، تغرقه فى مشاعر الحب وتنتمى اليه وتدخله عالمها وتشاركه حياتها ، حدث نفسه بأنه سيكون على أتم الاستعداد لأن يتحملها ولن يعانى من الخنقة التى يعانيها هشام ولن يشكو ، فى الوقت نفسه حدث هشام نفسه وتمنى ان تكون له زوجة مثل زوجة حسن ، تعطى المشاعر بحساب ولا تتدخل فى شئونه ولا تخنقه بلهيب مشاعرها وتتيح له متنفسا بعيدا عنها فى مشاركة الحياة مع آخرين ، ولن يشكو من أنها لا تشاركه حياتها . بدا الصديقان كل يتمنى ما فى يد الآخر للحظات ، تذكرا فى اللحظة نفسها الجملة الشهيرة التى كان يكررها الأستاذ عمران معلم اللغة العربية مرارا وتكرارا " أى شئ يحصل له افراط أو تفريط لازم نتايجه تكون سلبية " ، وأفاق كل منهما معا من مونولوج داخلي على صوت المراكبى وهو يقول : وصلنا الشط يا بهوات ، الحساب جملة ولا قطاعى .