التقت عيناها وعيناه فى صمت ، نظراته التى جعلتها ترتجف لم تستطع تفسيرها ، حاجبان يقطبان فوق عينين عميقتين ، أحبت فيه كل ما هو حاضر وغائب وكأنها ثورة إنسان تائب . شعرت به فى لحظات قصيرة ، لمحت نظرات خاطفة تلاحقها هنا وهناك ، فى هذا المكان الذى تطأه قدماه لأول مرة وهى فى استضافة أحد أقاربها المقيم بإحدى البلدان الأوربية . تساءلت : هل تستطيع أن تواجه شعورا جميلا طالما انتظرته طويلا ؟ ، هل تستطيع أن تنعم بشعور دافئ يغمر النفس ويراقص الأعماق ينغم صادق ؟ ، يا له من شعور يحتضنه المرء فى صمت وكبرياء ، يا لها من نشوة ، شعور يبعث فى الداخل القوة فيحبه المرء بكل ما به من سعادة وألم ، شعور يثبت أن الصدق هو أجمل ما يملك الإنسان حين تفيض به نبضاته . لم تكن تملك كيف تواجه شعورها وهى لا تزال لا تعرف عنه شيئا ، وهى لا تزال تجهل الموقف ، وتدرك أن القرار أمر مشترك ، لا يجوز أن تتخذه من طرف واحد ، إنه القرار الذى نرضخ له حين يقتحم نفوسنا هذا الشعور ويرسخ فى قلوبنا . فى لحظات لا نعرف متى بدأت وإلى متى تستمر وكيف تنتهى ؟ ، نسعد باقتحام ذلك الشعور ونخشاه ونعيشه ولا نفكر فى توابعه أو نتائجه ، إنه فوق كل تفكير ، خاصة حين نكون ظمأى لشعور صادق ولحظات مفعمة بالوجود ، أليس علينا فقط لحظتها أن نقول نعم ، لم تكن الغلبة أبدا لكلمة لا . انسابت مشاعرها مع كل تفكيرها وهزات أعماقها ونسيت كل شئ ، وهى تنظر إلى الأفق البعيد والخضرة تحيط بالمكان وهدوء جميل يحتضن الطبيعة بكل الحب والحنان . استنشقت الهواء العليل وهى تتمنى الكثير ، فتحت ذراعيها لتحتضن النبضات التى بدأت ترجف أعماقها وعيناها مغمضتان ، وابتسامة تعلو شفتيها ، وكلمات حانية تجيش بداخلها ، تربت بها على قلبها ، وتطمئنه بأنها على موعد ستلتقيه فيه ، وإن كانت لا تعرف متى ، ولا من سيكون ، إحساس قوى يهمس من قريب بأنها ستلقاه حتما . أفاقت من نشوتها الحالمة على أنغام الموسيقى الهادئة ، والخطوات التى تقترب منها ، خطوات ثابتة قوية ونبرات صوت إنسان واثق ، قال : هل هى المرة الأولى ؟. نعم إنها أول مرة . عينان قويتان تنظران لتخترق الأعماق ، النظرات تسبق الكلمات : أول مرة .. وماذا ؟ . أشاحت بعينيها ، هى لا تعرف ما وراء كل هذه النظرات ، تعلو شفتيه ابتسامة عريضة ، الكلمات تخرج من فمه ببطء : هل أعجبتك البلد ؟ . تنهدث فى صبر : لم أر شيئا بعد ، الوقت هنا عصيب مشحون بالمشاغل . ألم تفكرى أن تقيمى هنا ؟ . إذا أتيحت لى الفرصة .. لم لا . أنت إذن تؤمنين بالفرص ؟. أينما أؤمن بالحظ . وهل أتاك ... قاطعته باترة الحديث : اسمح لى . ولجت للداخل مع بقية الناس وهى تتمنى أن يطاردها حتى يكتمل الحديث . تساءلت من داخلها ، لماذا بترت الكلمات وانسحبت ؟ ، هل لأنها أحست بأن الحظ والحب يحاولان أن يطرقا بابها ، ولماذا لا ، هى تؤمن بالقدر وتؤمن بإحساسها ، هو من كانت تبحث عنه كثيرا بين طيات الحياة وانتظرته وآمنت بأنها ستلتقى به يوما . مرت الأيام وهى تحتضن هذا البلد الجميل ويحتضنها ، تتذكر وتنسى كلماته القليلة التى قالها بنبرات واثقة ، تبتسم من داخلها وتتمتم : " كانت لحظات ومرت ، كانت لحظات وانتهت " ، تستدعى من الذاكرة كم كانت لحظة لقاء صادق بعث داخلها الأمل من جديد . أحست بأن طريقا ينتظر خطواتها رغم الانقطاع ، الرجفة هى هى لا تزال تسكن قلبها كلما نطقت بكلماته ، تعيد المخاوف داخلها من جديد مثلما تعيد الأمل : هل نلتقى حقيقة أنا وهو فى منتصف الطريق ونسير سويا ونؤمن باتجاهات واحدة ؟ ، إنى أرفض أن يكون الأمر غير ذلك ، وأرفض أن يكون الأمر كما أحب ، إننى أريده قويا صلبا ، أبى ، قلبه يحتضن قلبى فى حب وكبرياء ، يعيش لحظات الصدق معى بكل عظمتها وحنانها وعنفوانها ، أرضى بأن يكون هو رائد خطواتى لتشرق حياتى بإمرة الرجل من جديد ، استقرار يرغبه هو وأحبه أنا ، طريق نكمله معا ونحتاج إليه دائما . استعرضت بسرعة شريط حياتها ، إنها ليست صاحبة تلك التجارب التى تصقل حياتها لتواجه بها الحياة ، اللهم هذه اللحظة الفاشلة التى انتهت منذ فترة ، لم يتفقا معا على شئ ، كان كل منهما فى طريق ، أرادت أن يكون رجلها الذى يقرر ويناقش ، يرفض ويقبل ، يحب ويكره ، ينسى ويتناسى ، تشعر بوجوده داخلها يملأ الفراغ الذى يحتوى أعماقها ، وتخوض هى أعماقه وأغوار نفسه ، حتى يلتقيا وتضمهما الآفاق ، ويتأملا أحلام الغد ويتذكرا قصص الأمس وذكريات الأمل ، ويعيشا انتظاره بكل الحب . انطلقت بها سيارته تجوب البلد يمينا ويسارا وهو يقوم بدور المرشد السياحى ، يتكلم وتجيش نبرات صوته داخلها ، ينظر إليها نظرات كلها عمق ، تود أن تغوص داخله لتعرف من هو . فجأة يصمت ، والصمت له رنين خاص تكلله أبعاد معينة تحسها هى ، وتخشى أن تحتويها فتخدع بها ، قالت : لكنى لم أعرف عنك شيئا . أحست أن عنصر المفاجأة من سماته يسأل بلا تمهيد ، هل حقيقة يريد أن يعرف هو أيضا عنى كل شئ ؟ . قاطع تساؤلاتها : هكذا أنا بلا مقدمات ولا قصائد شعر ، أحسست أننى أريدك ، أحسست أن كلا منا سيكمل الآخر . ابتسمت ، نظرت فى الفراغ دون أن تلتقى عيناها بعينيه ، كان أكثر ما تخشاه أن تفضحها عيناها ، وتكشف ما فى أعماقها ، قالت من داخلها : ليته يكون صادقا وأحس بى فعلا ، هل أقول وأنت من أنتظر ، وأبحث عنه ، ولم لا ، ولم نعم ، همست فى دلال : هل قررت وحدك كل شئ ، أم أنك تنتظر القرار المشترك ؟ . انطلقت كلماته بكل الحب فبدا إيقاعها أجمل ما ترنمت به : أحسست بك وأحببت ما أحسست فيك . هل رأيت كل هذا فى ؟ . بل رأيتك داخلى تقتحمين أعماقى . قاطعته : هل كان داخلك يبحث عن الدفء فوجدته لدى ؟ . الدفء والصدق ، أنا أبحث عن الأمان ، أنا كثيرا ما أفتقده وأفتقد معه الحب . تعانقت اليدان وذابت الأنامل ، صمتت الكلمات وتحدث الصمت ، تنهدت بعمق والسعادة تملأ جوانحها وهى تنظر لثمار حبها ، ظلا يضحكان وهما يسيران معا .