صحيح مصر ولادة كما يقول العامة من الناس.. وصحيح أن الأوطان لا تموت بموت زعمائها حسب ما يؤكد التاريخ. مات عبدالناصر وبكيناه كما لم نبك أبداً. شلالات من الدموع. وطوفان من أبناء الشعب تتدافع وراء جثمانه لحظة وداعه وكأن العالم بأسره قد توقف والحقيقة أن العالم لم يتوقف والحياة تمضي والبشر يموتون هذه سنة الحياة. وماتت أم كلثوم وسار الآلاف في جنازتها ومن فرط الحزن اعتقدنا أن اللحن الحزين نغمة سوف تطول والحداد قدر فماذا يمكن أن يعوض خسارتنا في سيدة الغناء العربي؟! سهران لوحدي. ورق الحبيب. ورباعيات الخيام. ومحلاك يا مصري وأنت علي الدفة..! ومات عبدالحليم وسعاد حسني اغتيلت.. علامات منحوتة في الوجدان. وصور مضيئة في ألبوم الوطن.. أتوق توقاً إلي حضورهم. وأستحضرهم كثيراً عبر ميراثهم الذي تركوه لنا أبدد وحدة الروح. ووعورة الأيام ومطبات الوطن الجريح في مسيرته الصعبة نحو المستقبل.. أرهف السمع. وأهدئ من تسارع دقات القلب عندما تتوالي صورهم ومعها صور الأيام والذكريات. ولا مانع من دموع غزيرة أمسحها في صمت ولا من شاف ولا من دري. اليوم مرت علي الخاطر ذكري رحيل أحمد زكي.. استعدت أول يوم التقيته.. زمن بعيد. لم يكن قد خطا إلي العاصمة رأيته في الزقازيق. مجرد طالب يهوي التمثيل موهوب حسب ما سمعته من سيدة فاضلة احتضنته. ولم ينكر فضلها عليه عندما مرت السنون والتقيته بعد أن صار نجماً مشهوراً ومحبوباً. ساعتها لم أتخيل أن هذا الشاب البسيط الخجول. هاديء الصوت. المتواضع سوف يصبح هذا النجم والفنان الفذ في مجال المسرح والسينما والتليفزيون!! صحيح مصر ولادة كما يقولون. وصحيح أن الأوطان لا تموت بموت بعض أبنائها الأفذاذ في مجالات الحياة المختلفة. ولكن دلوني علي من حل محل عبدالناصر؟؟ الزعيم يخرج من رحم الوطن في الزمن والمكان والتوقيت المناسب بملامح فريدة تشبه زمانه. وبدور فريد اختصه القدر به. لن يتكرر الزعيم بنفس الملامح أو بصورة مطابقة قد يخرج من رحم زمن آخر لدور آخر زعيم آخر يفرضه التاريخ لكينونة الظروف.. ولكن لن يكون صورة طبق الأصل. المرحلة الزمنية والظرف التاريخي والظروف في لحظة بعينها. فضلاً عن ظروف العالم المحيطة به. إضافة إلي عوامل أخري بعضها من صنع وترتيب الخالق جل شأنه.. هذه الظروف مجتمعة هيأت ميلاد الزعيم وهيأته أيضا للدور العظيم الذي يلعبه. الزمن لا يعود. ولن نرجع زي زمان.. "وعايزنا نرجع زي زمان قول للزمان ارجع يا زمان" هكذا تغنت أم كلثوم. لم يعوضنا الزمن عن سعاد حسني السندريلا بسندريلا أخري تحل محلها. السندريلا أيضا ابنة زمانها. وعبقريتها وخاصيتها المصرية الخالصة جعلتها ابنة كل زمان. وكل مصرية في زمانها وفي الأزمنة اللاحقة! دلوني علي "سعاد" الجميلة. المرحة. العاشقة. الحالمة في جراح الوطن. والمرأة التي عرفت الحزن. وأشاعت البهجة وأطلت في عيون بنات عصرها وقدمت ملخصاً بليغاً لمعني القهر السياسي. والظلم الاجتماعي والفقر الأخلاقي. مثلماً ترجمت ماذا تعني البهجة. ومضمون الحب الحقيقي. ورحيق الوطنية والانتماء من دون زعيق ولافتات وكلام حنجوري.. فسعاد لم تكن نبتاً شيطانياً ولا عُشبا أخضر في صحراء مجدبة ولكنها وليدة إبداع شعراء وكتاب وملحنين وكتاب سيناريو ومخرجين حرثوا وزرعوا وبذروا البذور في زمانها. وأمدوها بالوعي والإدراك وبالمعرفة الحياتية غير تلك الموجودة في الكتب النظرية.. سعاد ابنة عصرها. بدايتها ونهايتها المأساوية ليست بعيدة عن طبيعة العصر الذي عاشت فيه. مصر صحيح ولادة.. وصحيح أن الزمن لا يعود. وإلا فأين أجد علي الساحة الآن من يحل محل أحمد زكي؟؟ لم يعد "البرئ" بريئاً. أصبح بلطجياً يشق البطون بالسواطير والجنازير. "ومتولي" خرج عن المسار.. الاستعمار الذي كان والسلطة العميلة التي كانت تخدمه صار إسلاماً سياسياً. إرهاباً وتطرفا وقتلا باسم الدين الحنيف. وحلم "الهارب" الرومانسي أصبح كابوساً. وخداعا ووهما بالخلافة وامبراطورية إسلامية.. لصوص التهريب وعقود العمل في الخليج هم فوق رؤساء دول إسلامية وخليجية وأموالهم لقتل المسلمين وإطفاء نور دُرة العالم ومصباحه الذي إذا ما انطفأ سوف يعم الظلام الشرق كله وليس مصر فقط. أحمد زكي الذي رحل في مثل هذا اليوم "27 مارس من العام 2005". نغمة تغير عازفوها ورحل المايسترو وأسدلت الستار وانطفأت الأنوار لحين إشعار آخر. مصر ولادة هذا صحيح ومؤكد ولولا ذلك ما كانت ثورة يتلوها ثورة. وما كان التحدي العظيم في مواجهة شرور شيطانية تتعاظم وتستقوي بالمال الحرام و"الشيوخ" الذين يحرمون الحلال ويقطعون أوصال الحياة بالفتاوي والرشاوي والمال الكثير. مصر ولادة حتي ولو أصاب رحمها ورم وأخرج مولوداً مشوهاً أو من ذوي الاحتياجات الخاصة. رحم الله من أناروا لنا الطريق وتركوا ما يجعلنا نثق في أنفسنا ونستمد العزيمة من ماضينا والأمل في تحقيق خريطة مستقبلنا!!