فى حوار بين مذيع إذاعة ال:BBC العربية كان السؤال الذى طرحه المذيع على المستمعين هو : هل حققت ثورة يناير المصرية أهدافها؟ ووفقًا لطبيعة السؤال، فقد قامت الإجابات على أساس منطق: إما.. أو..، بحيث تنتفى الإجابات الرمادية التى تقع فى منطقة وسط بين الطرفين، وهو الأمر الذى يتفق ومنطق الواقع والحياة. ومن هنا فقد راح نفر يؤكد أن الثورة لم تحقق شيئًا، مدعما رأيه بشواهد كان من المفروض أن تحققها الثورة، لكنها لم تتحقق. وراح نفر آخر يؤكد أن الثورة حققت الكثير، مدعمًا دعواه ببعض الشواهد والبراهين. والحق أن كلا الموقفين يشوبه عوار التقاط أمثلة تؤيد أو تعارض الدعوى، وفقا لما يراه المتكلم، بينما تشير الوقائع إلى أن هناك أمورًا أساسية لا ينبغى إنكارها قد تحققت، وأن هناك أمورًا أخرى، أيضًا أساسية لم تتحق بعد، وفقًا للقول الشهير: وعين الرضا عن كل عيب كليلة، وعين السخط تبدى المساوئا!!. بل إن هناك منطقة ثالثة تضم شواهد وبراهين على أخطاء جسيمة وقعت فيها قيادة البلاد المسئولة، أساءت إلى الثورة، وعوقتها، وليكن حديثنا هذه المرة منصبا على الوجه المنير للقمر، مرجئين الحديث عن الوجه الآخر إلى مقال آخر. فأول ما يجب التنويه به مما يقع فى الجانب الإيجابى، فهو كسر حاجز الخوف لدى المصريين، وانفتاح باب الجهر بالرأى والتصريح بالموقف. إن هذا ليس أمرًا بسيطًا، بل يكاد أن يوازى كل الجوانب الأخرى، لأنه هو الأساس فى بناء الجماعة الوطنية، حيث توارثنا عبر قرون ، بل وآلاف السنين، نزعة، بدت وكأنها قد تحولت إلى " طبيعة " خاصة لدينا كمصريين، ألا وهى السلبية والخنوع والانصياع لذوى السلطة والحكام، مما كان يبعث لدى كثيرين بقدر غير قليل من اليأس من احتمال أن يثور المصريون على أوضاعهم التى بلغت من السوء ما لا يمكن أن يكون هناك ما هو أسوأ منه. إن كسر حاجز الخوف، هو باب أساسى لكل ما يمكن أن نأمل فيه، ويكفى أمثلة على ذلك، أن جماهير غفيرة، دأبت على الخروج والتجمهر والاعتصام، كلما رأت عجلة الثورة تتباطأ، وهذه القيادة العسكرية التى ورثنا الخوف منها، والتى تحمل السلاح والقوة وأدوات البطش، لم تعد ملايين المصريين تخشاها، بل وتردد الهتاف بسقوطها، بعد ما كان الهتاف الشهير: "الشعب والجيش إيد واحدة". لقد كانت السلطة تمثل " البعبع " الذى يبث الرعب والخوف فى قلوب الملايين، فإذا بالسلطة نفسها تقف خائفة أمام الجماهير، التى أصبحت نفسها " بعبا " للسلطة. وها هى الألوف إذ تتجمع وتتجمهر بميدان التحرير والميادين العامة الكبرى فى عدة محافظات، تختفى قوى الأمن، وتقف السلطة بعيدة واضعة يدها على قلبها.. بل لقد أصبح من المعتاد، أنه بعد، وأحيانا قبلها بساعات، كل مليونية، تسارع السلطة باتخاذ قرار مهم، كان مطلبًا لكثيرين.. لقد تبادلنا المواقف، وتلك لعمرى نقلة نوعية تاريخية، يجب المحافظة على توقدها، بشرط ألا تنحرف إلى قوة تخريب وتدمير. وهكذا امتلكنا قوة التصحيح، وقدرة التصويب..وكما صرح كثير من الثوار منذ الشهور الأولى، أنه إذا لم تتحقق مطالب الثوار" فالميدان موجود"..! ثانى المكاسب، هو سقوط قادة النظام المفسد- وليس فقط الفاسد- صحيح أن كثيرين يقولون بأن رموز إذا كانت قد سقطت، فإن النظام لنفسه لم يسقط، حيث فروعه وأذنانه ما زالوا متغلغلين فى أحشاء الدولة والمجتمع، وهذا صحيح لا ينبغى أن يُنكر، وبالتالى، فما زالت صور فساد وإفساد قائمة، وما زالت صور محسوبية وإرشاء وارتشاء تجرى، وكثير مما يسير فى هذا الاتجاه، لكن، انظر إلى بعض الحشرات والحيوانات، عندما تصيبها بضربة قاضية، نجد غالبًا أجزاء منها ما زالت تتحرك، ويخيل إلى الرائى أن الحيوان أو الحشرة لم تمت بعد، لكن، ما إن يمضى وقت بسيط، حتى تهمد الجثة ويفارق صاحبها الحياة. ثم إن اختفاء الرموز نفسها، إن لم يؤذن بسقوط النظام، فعلى الأقل، فإن هذا مؤذن بأن الفساد والإفساد لن يشهدا أبوابا جديدة، وزبائن أخرى، وأن الأعوان والأنصار، مهما تذرعوا بصور جرأة وقحة، وقدرة زائفة على الاستمرار، فمع الوقت لابد أن يسقطوا ويختفوا، ما دام المفسد الأعظم، والمستبد الأكبر قد تهاوى على الأرض، أو حتى " على السرير"!! ثالث هذه المكاسب، هى أن يتمكن المصريون لأول مرة فى تاريخهم، ونقولها بكل قوة، من اختيار من يحكمونهم، عن طريق هذا الإقبال منقطع النظير على التصويت فى انتخابات مجلس الشعب. إننا لا نستطيع أن ننسى هذه الطوابير التى فاقت طوابير الخبز والغاز، كى ندلى بأصواتنا، ثم نصل بحمد الله إلى مجلس شعب، لا أستطيع والله أن أجد من الكلمات ما أستطيع أن أعبر به عن فيضان السرور والارتياح وأنا أشهد الجلسة الأولى لافتتاحه، على الرغم مما يمكن أن نقول سلبيات...فهذه الوجوه المتعددة: من كان يتصور أن يجلسوا- بإرادتنا- مجالس هذا المجلس التى كانت محتكرة فى العهد الملكى لأصحاب الثروة والجاه فى الغالب والأعم، ومحصورة فى من يساير السلطة وترضى عنه فى عهد ثورة يوليو، ومقتصرة على الفاسدين والطبالين والممسكين بالمزمار، وضاربى الدفوف، والدائرين على موائد اللئام، فى عهد مبارك الأسود؟ بل إن هؤلاء النواب أنفسهم، لم يتصوروا أن يجئ يوم عليهم ليجلسوا جلستهم هذه. نقول هذا عن الانتخابات ومجلس الشعب، على الرغم من المحاولات المفضوحة لكسر فرحتنا به، من فريق يمكن وضعه فى خانة من :" لا يعجبه العجب، ولا الصيام فى رجب" ، وإن كان من فائدة فى هذا فهى كشف حجج عدد من الذين زعموا عن أنفسهم أنهم حماة الحرية والديمقراطية، حيث وضح أن هناك عبارة مخفاة مكملة، تقول " بشرط أن تجىء – أى الحرية والديمقراطية - بنا وتقصى أغيارنا"!! ومن أول جلسة راح فريق من الناس ينثرون الشكوك والغمز واللمز، وإساءة الظن، حتى إن كاتبًا كبيرا نحبه ونحترمه، إذا به يكتب قائلا إن النظام البائد، كنا نعرف مقدما من سوف يكون رئيسًا لمجلس الشعب، وأن برلمان الثورة، عرّفنا أيضًا بمن هو رئيس مجلس الشعب قبل الافتتاح، متسائلا : فما وجه التغير؟ والحق أن هذا ظلم كبير، يحتاج إلى سطور أطول، لكن ما يمكن قوله هنا إن هناك فرقًا بين أن نعرف مقدما رئيس المجلس، على أساس ما حدده الجالس على رأس النظام وأعوانه، وبين أن نعرفه مقدما، عن طريق توافق بين أصحاب الكتل المختلفة التى نالت أكبر عدد من الأصوات!! لكأن هؤلاء يستدعون إلى ذاكرتنا المثل الشعبى السائر: مالقوش فى الورد عيب، قالوا : يا أحمر الخدين!! لمن تُسلم السلطة؟ تتعالى أصوات ألوف من المصريين منذ حلول ذكرى ثورة الخامس والعشرين، بل وقبلها، بضرورة أن يُسلم العسكر سلطة الحكم لمدنيين. ومع كراهيتى لحكم العسكر، منذ سنوات طويلة، معبرًا عن ذلك فى مقالات متعددة ( انظر كتابنا: "هوامش فى السياسة المصرية"، الصادر عن دار الثقافة الجديدة، فى أول التسعينيات، فضلا عن مقال شهير حمل عنوان: العقل العسكرى عندما يدير مجتمعا!!) إلا أننى هذه المرة، أسجل موقفى فى الملاحظات التالية: أولها، أن من يعبرون عن هذا الموقف، يسوقون تعبيرهم بأسلوب مهين لأبرز القادة العسكريين للجيش المصرى، وكان يمكن أن يتم التعبير عن هذا المطلب بأسلوب مهذب كريم، خاصة أننا يجب ألا ننسى أن البيان الأول للمجلس العسكرى، فى الأول من فبراير 2011، أثناء وجود مبارك رئيسًا، أعلن تفهمه وانحيازه للثورة. وعندما زحفت الجماهير نحو قصر الرئاسة، وبرز اتجاه لدفع الحرس الجمهورى لأن يتصدى للجماهير الزاحفة، كان رفض قاطع من هذه القيادة العسكرية. ثانيا، أننى لا أنسى إلحاح القوى الثائرة الآن، ومن يؤازرونهم من فلاسفة الفضائيات، على ألا تستعجل قيادة المجلس فى إجراء الانتخابات وخطوات تسليم السلطة، حيث إن القوى الثورية الجديدة، لم يكن الوقت يسعفها حتى تنتشر وتمكن لنفسها بين الجماهير. ثالثا، أن أربعة أشهر فى عمر الشعوب ليست بالفترة الطويلة، وهى الأشهر الباقية لتنفيذ الجدول الزمنى لتسليم السلطة لرئيس منتخب. رابعًا: أنه بانعقاد مجلس الشعب، بعد اكتمال انتخاب أعضائه، قد تسلم أبرز سلطتين، ألا وهى سلطة التشريع، فضلا عن سلطة المراقبة والمحاسبة، بحيث لا يستطيع المجلس العسكرى الآن أن يتصرف وفق ما يريد. ومع ذلك، فمن وجهة نظرى، يمكن اختصار الفترة المتبقية، بإعادة النظر فى الفترة المخصصة لكتابة الدستور، فكثير من ذوى الحجة والاختصاص فى الفقه الدستورى يقدمون العديد من المبررات المؤكدة أن الدستور يمكن إنجازه فى فترة يمكن أن تقل عن أصابع اليد الواحدة. [email protected]