أنا زعيم بأن الكثير من عثرات النهضة العربية الحديثة كان سببها غير المباشر هو عنجهية المثقفين العرب واستكبارهم واستعلاؤهم بغير الحق في الرأي والفكر والمعتقد ، وما زالت هذه الآفة حاضرة بقوة في كتابات ومواقف المثقفين العرب حتى الآن ، يكتب الواحد منهم وكأنه آخر عناقيد سلالة العباقرة الذين لا يجود الزمان بمثلهم إلا كل ألف عام ، وينتقد الآخر منهم الواقع وأفكاره وناسه وتاريخه ، وكأنه نبي الاستنارة ورسول الحداثة في أمة العرب ومبعوث العناية الإلهية بالأمة المنكوبة ، وإذا قدر لك رؤية أحدهم في برنامج تليفزيوني مثلا فسيكون من بؤس حظك ونكد الدنيا عليك وأنت ترى وتسمع استعلاءه المرضي واحتقاره للناس والمجتمع والتاريخ والحاضر وشؤم بشراه بالمستقبل ، والحقيقة أن مثل هؤلاء يثيرون من الإشكالات والارتباكات والفوضى والهدم والتخريب في الفكر والقيم والمعرفة أكثر بكثير مما يطرحون من رؤى وأفكار بناءه ودافعة لحركة النهوض ، والكبر لا يأتي بخير أبدا ، لا في السلوك الشخصي ولا في السلوك الاجتماعي ولا على مستوى الفكر ولا على مستوى الأخلاق ، هذه خبرة الحياة وكلمة التاريخ ، وهؤلاء تجمعهم كراهية عميقة لثقافة الأمة وقيم المجتمع واختيارات أهله السياسية أو الدينية أو الثقافية ، من يلاحظ عنجهيتهم وهم يعنفون الناس والملايين التي خرجت انتصارا لكرامة نبيها وإعلانا للغضب وجدتهم يتأففون من الأمر ، ويعطون الأمة درسا في مسألة أن ما يفعلونه سذاجة وتخلف لأن تراثهم متخلف وكتب التراث فيها ما هو أسوأ من المنشور في الدينمارك مما هو إهانة للعقل ، وبعضهم اعتبر أن ليس من حق الأمة أن تغضب طالما أنها لم تحقق حضورا حضاريا مثل الذي حققته الدينمارك وأوربا ، وبعضهم اعتبر أن البنت التي ضحك عليها ابن الفيشاوي وفعل فعلته أهم وأخطر على الإسلام من الاعتداء على رسول الله ، بما يعني أن كرامتها أهم من كرامة نبي الأمة ، وفذلكات كثيرة مثيرة للاشمئزاز كلها تعطيك أبشع الأمثلة عن عنجهية المثقفين وكبرهم الذي لا معنى له ولا قيمة .. ولا كرامة ، والحقيقة أن موقف أمثال هؤلاء من واقعة البذاءة الدينماركية يعود إلى خشيتهم من حرمانهم هم أنفسهم من حظوظ شهرة عديدة احترفوا اقتناصها كذبا بأفعال مشابهة في كتب أو قصائد أو مقالات ، ومنهم من كان يرسل هذه البذاءات إلى الأزهر والمؤسسات الرقابية بأسماء مستعارة ليحرضهم على رفضها والتنديد بها من أجل أن يحصد هو الشهرة الحرام ، والحقيق أن معظم هذا الاستكبار والذي انتشر في مثقفي اليوم على نطاق واسع يستبطن إحساسا بالعجز عن التواصل مع الواقع ، وربما شوق غير مشروع إلى توسد ريادة ثقافية أو فكرية في المجتمع دون أن يدفع ضريبتها عطاء وصبرا وتضحية ، فكما أن الفنان اليوم يمكن أن يتحول من شاب مغمور إلى نجم تشير إليه أصابع الملايين من المراهقين كعلم من أعلام الفن ، رغم أن كل تاريخه في الفن فيلما واحدا أو مسلسلا أو أغنية ، فهناك من أحلام بعض المثقفين اليوم أن يتحول إلى نجم ثقافي وعلم من أعلام الفكر بمقال يكتبه أو كتاب ينشره أو حوار تليفزيوني ، وبطبيعة الحال ، مثل هذه القفزة لا تأتي بالعطاء الهادي المتأني والصبور والمتواصل ، وإنما تأتي بالضجيج والصخب والإثارة والصدمات، ومن هنا عرفنا في سوق الثقافة العربية الحالية كثرة الصخب والضجيج والادعاء والإيذاء النفسي للمجتمع والإساءة إلى مقدساته أو ما يعتز به من قيم ، وكل ذلك دون أن جهد بنائي جاد أو عملي أو يبنى عليه أو يضيف جديدا ، هو كما يقولون " قعقعة ولا طحن " ، وانظر حولك الآن في سوق الثقافة العربية وما يطرح فيها من قضايا وأفكار حول مشكلات المجتمع من أول مسائل المرأة إلى الاجتهاد الديني إلى الانفتاح الثقافي والحضاري إلى قيم الفنون والآداب ورسالتها ، وابحث عن أي " طحن " فيها يشبع أشواق المجتمع نحو النهضة أو البناء فلن تجد ، وكلما أجهدت ذهنك وعينك للبحث عن معنى ، فلن تجد سوى المزيد من العجرفة الثقافية والادعاء واستفزازات أنبياء الاستنارة الكاذبة . [email protected]