تحدثنا فى المقال السابق عن الشهيد محمد عبد القادر الذى تم تعذيبه حتى الموت فى عام 2003 وقمنا بإهداء هذه القصة إلى اللذين يذرفون دموعهم على القاتل ولا يبكون على الضحايا وذلك بمناسبة محاكمة الرئيس السابق حسنى مبارك وتابعه الحبيب العادلى .. واليوم نقوم بعرض الحلقة الثانية . وهى قصة الشهيد عبد الحارث مدنى المحامى والذى تم القبض عليه فى ابريل عام 1994 من مكتبه ومن بين أوراقه وموكليه للتحقيق معه فى أى شىء .. وفى كل شىء دون إذن من النيابة كالعادة وكنت فى ذلك الوقت أميناً لصندوق نقابة المحامين وكان نقيبنا الأستاذ العظيم أحمد الخواجه رحمه الله .. ولم نكد أن نعترض على أمر إعتقال الزميل إلا وبلغنا أمر وفاته من أثر التعذيب .. ووقفت النقابة وقفة الغيور على كرامة المهنة إلى أن قامت النيابة بعرض جثة الزميل الراحل على الطب الشرعى فأكد التقرير أن الجسد النحيل وأعوامه الثلاثون وشعبه الهوائية لم يحتملوا صعق الكهرباء فمات من فوره إذ لم يكلف الشيطان الذى عذبه نفسه عناء أن يوقع الكشف الطبى على الضحية قبل أن يعذبه ذلك أن طغاة القرون الوسطى كانوا يفعلون ذلك ولو فعلوا لعلموا أن الضحية كان مصاباً بربو شعبى مزمن ولكن التقرير أثبت أيضاً أن الشهيد عبد الحارث مدنى قد تم تعليقه من اليدين والرجلين على خشبة غليظة السمك كالذبيحة وأن هذا التعليق قد خلف جروحاً فى اليد والقدمين بها علامات التقيح .. وأن هذا التعذيب قد إستمر لما يقرب من الأسبوعين قبل إستخدام الكهرباء .. وأن علامات الضرب على ظهره تدل من خلال تعرجها على أن الآلة كانت تشبه " الكرباج " أو ما شابه ذلك .. وثار المحامون ثورة عارمة كانت هى الأولى فى عهد الرئيس السابق حسنى مبارك .. وانتظمت المظاهرات اليومية وأقمنا جنازة رمزية بإسم الشهيد وطالبنا النيابة بأن تحرك الدعوى الجنائية فى مواجهة الطغاة .. إلا أنها لم تفعل وحينئذ لم يجد المحامون أمامهم إلا أن يخرجوا فى مسيرة بالأرواب السوداء من باب النقابة وحتى قصر عابدين ليقدموا أول إحتجاج وإتهام للرئيس السابق وحددوا لذلك يوم 17/5 من ذات العام فى تمام الساعة الواحدة ظهراً .. أما وزير لداخلية فقد أحاط النقابة بقيادات وجنود الأمن إستعداداً لضرب المظلوم الذى يبكى وليس للقبض على القاتل الذى طغى .. المهم أن المحامين أصروا على الخروج لمطالبة النيابة العامة بتحقيق القضية ومطالبة الرئيس السابق بإعلان مسئوليته عن الجريمة أو تقديم الفاعل إلى المحاكمة .. فماذا كانت النتيجة ؟! حجبت النيابة العامة التحقيقات عن المحامين ومنعتهم حتى من الحصول على رقم البلاغ .. وإذ يخرج المحامون من نقابتهم معترضين فى مظاهرات حاشدة كان إطلاق النار عليهم من كل جانب وكان إستخدام طلقات تخدير الأعصاب لأول مرة فى تاريخ مصر إذ كانت الطلقة تصيب حولها عدداً من المحامين بالإغماء الكامل لمدة تتراوح بين الدقيقة الواحدة والثلاث دقائق .. ثم بدأ الضرب بالغازات المسيلة للدموع مع إستخدام العصى فى مواجهة المحامين والجماهير التى تجمعت ... واستمرت هذه المعركة حتى الساعة الرابعة عصراً ... وليت فصولها قد انتهت عند هذا الحد .. إلا أن الطغاة وبعد أن قاموا بضرب الضحية وترك الجناة .. قاموا باعتقالنا جميعاً فى فجر اليوم التالى . وللمزيد من التأديب تم إيداعنا فى سجن المحكوم بمنطقة طره داخل زنزانة خلت من دورة للمياة .. وإنما تم الإكتفاء بتوزيع أكياس بلاستيكية مع تسليمها فى الصباح ... ولم يسلم أعضاء مجلس نقابة المحامين من الإعتقال فكان معى الأساتذة خالد بدوى وجلال سعد من أعضاء المجلس وكنا نعيش جميعاً فى زنزانة مساحتها لا تزيد عن أربعين متراً مربعاً بينما كان يسكنها تسع وأربعون محبوساً يتبادلون النوم فيما بينهم وقد تم إتهامهم بسبع إتهامات تكفى الواحدة منها للقضاء على مستقبله ومستقبل أولاده . وقامت وزارة الداخلية بما يتناسب مع نهجها فأوصت إدارة السجن بالإيذاء وقامت بإختيار الرائد / ناصف بولس لكى يكون ضابطاً مسئولاً ... وليمنع عنا الصحف ويحرمنا حقوقنا . فكان الرائد ناصف بولس نفسه هو بلسم الشفاء لنا رغم أنف الإدارة وكان يحمل لنا كل ما نريده خلسة إذ كان صديقاً للمحامى ماجد حنا فكون الإثنان نموذجاً رفيعاً من الوطنية والإخلاص .. ولم يتفوق عليهما إلا من كان معنا من الإخوة والزملاء الأقباط وقد كانوا فى خدمة المجموع فى أوقات الصلاة .. بتحريك ما لديهم من متاع لتكون مروحة يدوية تخفف على النفس وترفع من روح الإخوة فكانت هزيمة حقيقية للطغاة .. ولأن المحامين أصروا على الإعتصام بالنقابة العامة .. ولأنهم أصروا على الإضراب عن الطعام ... ولإنهم نظموا المظاهرات الإحتجاجية المنتظمة فى كل جلسة من جلسات تجديد حبسنا والتى استمر تجديد الحبس فيها لما يقرب من الشهرين .. لم نكن نعلم فيها لماذا يقررالقاضى حبسنا .. ولأن نقابة المحامين كانت فى ذلك الوقت فتية وشديدة البأس على أعداء الحرية .. إضطر الطغاة إلى الإفراج عنا .. ولم يكن ذلك مع الأسف من سراى النيابة وإنما كان من مبنى مباحث أمن الدولة .. وبقيت دماء عبد الحارث مدنى عند ربها تنتظر القصاص العادل ولم يتم إحالة القضية إلى محكمة الأرض واستمر أطفاله فى الصراخ والدعاء . والآن من يريد منكم أن يبكى على الرئيس حسنى مبارك وتابعه العادلى .. فليتفضل بالبكاء ... وعجبي www.mokhtar nouh.com