والساعة الخامسة والعشرون اسم رواية جميلة لكونستتسن جيورجيو القس والكاتب الروماني الذى دخل تاريخ الرواية من أبوابها الواسعة برائعته الشهيرة (الساعة الخامسة والعشرون) التي حازت على (جائزة نوبل) عام 1948. ومن قرأ الرواية يتذكر المسكين (موريتز)ووقفته الأخيرة أمام سير الماكينة المتحرك.. حيث تمر فوقه علب كرتونية مملوءة بالأزرار المصنعة فيقوم بترتيبها فوق بعضها على أحد طرفي السير استعدادًا لشحنها. وتكون سرعة وصول العلب على السير موافقة لأقصى سرعة يمكن ل(موريتز) أن يرفع بها العلب من فوقه وإذ يحدث.. وأثناء انهماكه في هذا العمل المرهق أن يقوم بحك رأسه.. فيخسر أثناء ذلك بضع ثوانٍ من آلية العمل مما يؤدي إلى تراكم العلب فوق السير وتوقف العمل في المصنع كله. ليخضع بعدها لأقسى أنواع التعذيب والاضطهاد.. وهذه هي العقوبة التي تنتظر كل من يتقاعس أو يتلكأ عن أداء عمله في خدمة الآلة. لندع موريتز والماكينة وما ناله من تعذيب... ولتأمل المشهد الحالى فى وطننا الحبيب.. إذا كان علماء السياسة قد اختلفوا حول النظم السياسية وأنواعها فقد كان اختلافهم أشد حول العلاقة بين (العسكريين والسياسة).. ولا تعود تلك الخلافات إلى عدم معرفة هؤلاء العلماء بالعسكريين ومؤسساتهم فقد كثرت الدراسات التى تتناول وتحلل الجيوش.. وإنما تعود بالأساس إلى تعقد المشكلات التى تواجه المجتمعات وعلى رأسها مجتمعات العالم الثالث من تدخل العسكريين فى السياسة والحكم.. ومن ثم دارت بحوثهم ودراساتهم حول أنجح السبل لمواجهة هذه المشكلات بما فى ذلك اختبار (دور) العسكريين فى حل تلك المشكلات القائمة. على أننا لا نغفل الدراسات التى تناولت الدور( التنموى) للجيوش.. خاصة حال استمرار فكرة (تهديد الأمن القومى).. وما يتطلبه من بحوث ودراسات ومشروعات تخدم هذه الفكرة وتحميها.. وزوال خطر التهديد كارثة حقيقية للأوطان والشعوب والجيوش أيضًا (عش فى خطر).. ولهذا موضوع مستقل سنتحدث فيه عن هزيمة كل يوم(1967م) وما ترتب عليها من توقيع معاهدة السلام وأثرها (المهول)..على كل شيء.
ويعود اهتمام المفكرين وعلماء السياسة ب(الظاهرة العسكرية) إلى عهود قديمة فقد نظر أفلاطون نظرة دونية إلى نظم الحكم التى تستند إلى أساس واحد من الأسس (الأربعة) المشهورة: القوة (أى الجيش) والثروة والعدد (الديمقراطية) والكاريزما (النظام الشخصى)... أفلاطون لم ير الدور المرعب لأجهزة الإعلام فى تفريغ فكرة الديمقراطية من محتواها الحقيقي... ولا دورها فى صنع (الزعيم الكاريزمى) الذى يتحول إلى (هُبل) العصور الحديثة.. أرسطو بدوره كان يرى أن النظام السياسى يستند إلى قاعدتين: (العسكريون) من ناحية و(المشرعون) من ناحية أخرى.. ابن خلدون المنظر التاريخى (لدولة العصبية)- سامحه الله- كان يرى أولوية القلم (الفكر والتشريع) على السيف خصوصًا بعد استقرار نظام الحكم.. ولم يقتصر اهتمام العلماء بالعسكريين فقط على دراسة دورهم فى النظام السياسى وعلاقتهم ببقية القوى السياسية فيه وإنما امتد كذلك إلى تصنيف النظم السياسية والاجتماعية ما بين نظم (ديمقراطية) يقف فيها الجيش على (الحياد) ويؤدى وظيفة عسكرية احترافية.. وبين نظم (بوليسية) يتولى فيها العسكريون السلطة باعتبارهم المتخصصين فى العنف.. أو فى ترسيخ ما اشتهر على لسان الرائد الكبير د.عبد المنعم أبو الفتوح ب (جمهورية الخوف). وهى الجمهورية التى ابتلعت أحلام العرب فى الانقلابات (القومية/العسكرية) بعد الاستقلال.. حيث الكابوس السعيد فى زمن النكبات والعسكر والأيديولوجية المغلقة.. سنكتشف فى أدبيات اليسار أن (لينين) كان يرى أنه (لا يمكن اعتبار القوات المسلحة محايدة وينبغى ألا تكون وأن عدم جذبها إلى السياسة هو شعار خدم البرجوازية والقيصرية والمنافقين الذين يجذبون القوات المسلحة دائمًا إلى السياسة الرجعية)، ولعل هذا يفسر مواقف اليساريين والقوميين -بعد أن أعادوا (تموضعهم)- مما يحدث الآن فى وطننا الحبيب... بغض النظر عن ادعاءاتهم (الديمقراطية) التى سقطت سقوطًا مريعًا في أول اختبار قومي (من التمجيد النظرى للحرية إلى الغوص فى العبودية السياسية المطلقة). كثير من الباحثين يرون أن هناك ذرائع وأسبابًا تدعو العسكريين إلى التدخل المباشر فى السياسة وهى: 1 ضعف المجتمع وغياب فكرة التماسك الاجتماعي.. حيث المؤسسات القوية والأحزاب التاريخية والنقابات والجمعيات الأهلية. 2 التفكك الطبقى وقد شهدت أوروبا ذلك خلال مراحل تطورها الأولى(التراكم الكمى لتجربة الديمقراطية السياسية) واستطاعت تطوير بنيانها الاجتماعى والطبقي فى أعقاب الثورة الصناعية بصورة اتضحت معها خطوط التمييز بين الطبقات المختلفة... يقولون إن أهم أسباب رسوخ الديمقراطية الإنجليزية هو رسوخ التكوين الطبقى فى المجتمع. 3 تدهور مستوى العمل الاجتماعى والتنموى والعجز عن تعبئة الموارد اللازمة لعملية التحديث والتقدم حين تفشل الدولة فى إيجاد رموز وخطط عامة للعمل الاجتماعى وحينما تفتقد نتيجة ما سبق للتأييد. 4 انهيار وتدهور السلطة السياسية إلى درجة (انكشاف النظام السياسى). 11 فبراير 2011م.. وبما يفتح الباب أمام أي (جماعة) - بما فى ذلك الجيش- للانقضاض على نظام الحكم. الجيش فى هذه الحالة يستهدف إعادة بناء السلطة السياسية.. على نفس النسق التاريخى التى كانت عليه!! بزيادة دوره السياسى فى الحكم أو -وهنا كانت كوميديا الجحيم السياسى- بوضع المدنيين فى السلطة وإقرارهم بأهمية دور الجيش فى إقامة النظام وحفظ الاستقرار!!؟؟ (تجربة حكم ما قبل 3/7/2013)..
عادة ما يرتبط انهيار السلطة السياسية بغياب الطبقة المتوسطة وضعف تواجدها السياسى فى المجتمع أو بالأحرى غيابه.. ومن ثم ينهار التوازن السياسى القائم ويحاول الجيش قيادة النظام السياسى إلى توازن جديد.. تاريخيًا.. يجب أن نضع فى الاعتبار أن انهيار السلطة السياسية لا يعنى بالضرورة انقضاض الجيش على تلك السلطة... قد يقف مراقبًا ومشيرًا وناصحًا.. أو حتى حكمًا بين الفرقاء إلى حين استعادة العافية السياسية للدولة والمجتمع. 5 الأزمات الاقتصادية الحادة.. وهى فى ذاتها لا تدعو إلى التدخل العسكرى فى شئون الحكم خصوصًا إذا وجدت مؤسسات سياسية واقتصادية تستطيع أن تحتوى آثار تلك الأزمات وتضع من السياسات ما يعيد النشاط الاقتصادى إلى الطريق الصحيح.. يقولون إن إقدام الجيش على التدخل على إثر الأزمات الاقتصادية.. هو ما قد يترتب على تلك الأزمات من تشجيع بعض الجماعات الراديكالية لاستثارة المجتمع كله ضد (ارتباطات الدولة الخارجية) والتى تعد –علميًا- سببًا هامًا من أسباب الأزمات الاقتصادية.. التبعية التى يمنى بها الاقتصاد -أى اقتصاد- هى التى تقود فى النهاية إلى الأزمات الاقتصادية الحادة.. 6 التدخل أو الاختراق الأجنبي... تراكم الآثار السابقة من شأنه أن يعرض المجتمع كله لخطر التدخل أو الاختراق الأجنبى.. خصوصًا بالنسبة للدول ذات الأهمية الخاصة سواء بحكم الموارد الطبيعية الموجودة بها أو بحكم (الموقع الجغرافى) الذى تتمتع به ويأتى هذا التهديد عادة من الدول الكبرى ذات الأطماع الاستراتيجية أو من الدول الدائنة وذلك لضمان تسديد ديونهم.. والجيش بصفته الحارس على أمن البلاد يراقب مدى تزايد النفوذ الأجنبى داخل المجتمع سواء فى النواحى الاقتصادية أو المجالات السياسية أو ميادين (الثقافة والفكر)!!!.. كثير من الدراسات أشارت إلى اعتقاد قوي بأن من أهم أسباب التدخل العسكرى فى النظم السياسية فى بلاد العالم الثالث يكمن فى المساندة الأمريكية للجيوش.. والتى تمنحها قوة فوق قوتها ونفوذًا إضافيًا واستقلالًا سياسيًا وماليًا يدفعها إلى التدخل لمواجهة القيادات السياسية المدنية. هذا الدور فى حقيقته -دور الولاياتالمتحدة وغيرها- من الدول المصدرة للسلاح والخبرة العسكرية يتوقف ويرتبط بالظروف الاجتماعية والسياسية داخل المجتمع أكثر من ارتباطها بالعلاقات المباشرة مع جيوش العالم الثالث.
قد يكون حسن النية وراء العسكريين وهم ينظرون إلى السياسة فى بلادهم باعتبارها أحد المجالات التى يمكن أن يدلوا فيها بدلوهم خاصة إذا كانوا يشعرون(بأبوة مانحة.. يوليو 52).. بالإضافة إلى مهمتهم الأصلية المتعلقة بالدفاع والأمن وهم ينطلقون فى ذلك من قناعتين تتعلق الأولى بأنهم أقدر من المدنيين كافة فى إقامة النظام وتحقيق الاستقرار.. وتتعلق الثانية بعدم ثقتهم فى فاعلية الجماهير وكفاءتها.
ستنبئنا تجارب التاريخ أنه إذا أراد العسكريون –بحق- الإسهام فى (التنمية السياسية) فى أوطانهم فعليهم الاعتصام والمرابطة فى ثكناتهم وإتاحة الفرصة للمدنيين والسياسيين للقيام (بواجب الضرورة) وتحمل مسئولياتهم السياسية والتنظيمية أسوة بنظرائهم فى الدول المتقدمة وتحقيق فكرة (التراكم التاريخى) للتجربة الديمقراطية وتحولها النوعى من الحالة الكمية إلى حالة الكيفية تماسكًا واستقامة.. إلا أن تجارب التاريخ أيضًا علمتنا أن تبوء العسكريين السلطة المدنية.. يغريهم بالتمادى فى الإمساك بها ورفضهم القاطع التنازل عنها.. سيكون علينا تذكر أن ثورة يناير 2011 م قامت بالأساس للقضاء على فكرة (التسلط المركزي)، حيث السلطة كانت قابعة فى أيدى التحالف الثلاثي( بيروقراطية الدولة) و(المؤسسة العسكرية) و(الحزب الوطني الحاكم). وهو التحالف الذى كان يستند فى عوامل قوته واستمراره على حماية القانون والجيش والشرطة. وهو أيضًا التحالف الذى جذب إليه وكلاء العولمة الاقتصادية ووكلاء الشركات الأجنبية والاستيراد فى محاولة فاشلة لإضفاء ليبرالية اقتصادية مشوهة لم تسمح بحال من الأحوال بفتح مجال الليبرالية السياسية أمام المجتمع، حيث (تسلطية الدولة) تتجسد في هيكل قانوني استبدادي بغطاء ليبرالي مرتبك وهش.
راحت الأسئلة تترى وتتوالى وراح الناس يبدون دهشتهم وخوفهم.. فالدولة مازالت فى قبضة إخطبوط البيروقراطية.. والمؤسسة العسكرية سندع التاريخ يحكم عليها.. والحزب الوطنى يرتدى (لبس العيد). إلى من كان يصيح صلاح عبد الصبور بقوله الشهير: هذا زمن الحق الضائع.. لا يعرف فيه مقتول من قتله ومتى قتله ورؤوس الحيوانات على جثث الناس.. ورؤوس الناس على جثث الحيوانات.. فتحسس رأسك.. فتحسس رأسك.. ..................... إنها الساعة الخامسة والعشرون يا (موريتز).