جزء من مصيبتنا أننا لا ندري إلى أي قاع هوينا، وإلى أي ضياع انتهينا. صرنا شعبا يتنفس سياسة، ويحيل كل شيئ سياسة. لايهم ماذا تقول المهم مع أي فريق أنت. صرنا نفكر بأعيننا وآذاننا، وألغينا عقولنا، أو سلمناها على بياض لمن نصرناهم وانتصرنا لهم! أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليهود يسألهم في ولدهم عبد الله بن سلام فقالوا: حَبْرُنا وابن حبرنا، وعالمنا وابن عالمنا، وما إن علموا بإسلامه حتى قالواعلى الفور: شرُّنا وابن شرِّنا، وجاهلنا وابن جاهلنا. انتقل من العلماء إلى الجهلاء في لحظة! لا يهم القول، الأهم انتماء القائل... يمكن أن يحدث هذا في السياسة، أو في العقيدة، أو في الرياضة... أما إن حدث في العلم فعلى الدولة السلام. أقول هذا وأنا أتابع الصخب الحاصل حول اختراع في مصر قيل إنه يعالج أمراضا فيروسية ويقضي عليها مثل الايدز والالتهاب الكبدي الوبائي، لتنصب ساحة الجدال، فمؤيدو الجيش مصدقون ومساندون، ومهاجمون لكل من يشكك أو يسخر من الاختراع. لا أعلم موقف المؤيدين أو المعارضين لو أن فريقا من الباحثين المنتمين للإخوان كان هو صاحب الاختراع. حولنا العلم إلى أهلي وزمالك، وجيش وإخوان! العلم أعمى لا يبصر القائل، ولا يأبه لانتمائه أو عقيدته، المهم الاختبار والدليل والدقة. العلم لا يعرف إلا خطوات منتظمة لو سار فيها المرشد أو المشير أو الكافر لوصل إلى نفس النتائج، وإن حدث غير ذلك فمعناه أنه لم يكن علماً، بل كان عبثاً مثل كل شيء لدينا تقريباً. ساحة العلم مثل ساحة المحكمة، لا تعترف إلا بالدليل والبرهان، ويجب أن تقدم كل الأوراق، والدفوع، والنتائج والأرقام، وإن لم يوجد أي من ذلك فالقضية خاسرة. أي دواء في الدنيا لابد أن يختبر من حيث الفاعلية والأمان، ويتم ذلك من خلال عمليات معقدة يجريها فريق من الكيميائيين وعلماء الفارما كولجي والاحصائيين لاختبار كل الاحتمالات على الحيوانات ثم على المتطوعين بعد أخذ الموافقات اللازمة، وبعد تحكيم نتائج الاختبارات على الحيوانات ونشرها، تبدأ مرحلة التجارج المعملية على البشر، وهي تمر بأربعة مراحل أساسية: اختبار الأمان، والجرعة، والفاعلية، والفوائد في مقابل المخاطر. هل تم أي من هذا في حالة اختراع الفريق الطبي العسكري؟ هل تم أي نشر علمي؟ ما نتائج اختبارات كل مرحلة؟ ما المخاطر والفوائد إحصائيا؟ أعتقد أن طرح هذه الأسئلة كان أولى من الاندفاع في الهجوم والدفاع. لا يعنيني من المخترع، ولكن يعنيني كيف. لم أصدق نفسي وأنا أتابع ما يقال ويحدث فأجد من ينادي بالبدء في استخدام الجهاز في علاج الناس حتى نتأكد من فاعليته! ندعو إلى تطبيقه ونحن لا نعرف كيف اختبر أصلاً؟ كيف يدعون إلى تحويل الشعب كله إلى فئران تجارب؟ كيف لهذا الجهاز أن يقضي على الفيروس دون أن يؤثر على الخلية التي احتلها الفيروس وسيطر على شفرتها؟ نريد أن نفهم قبل أن ندافع أو نهاجم، فالأمر لا علاقة له بالسياسة، أما إن كان الموضوع مجرد سياسة، فعليك السلام يا بلدي! أيضا لفت انتباهي تأكيد المخترع على أن نسبة فعالية الاختراع بلغت 100٪، وهو ما لم أسمع به في العلم من قبل، فالعلم قائم على الاحتمال، ولذا فإن العالم يظن، والجاهل يؤكد. وهو تعميم لا يأخذ في الحسبان حالة المريض ومراحل المرض. العلم لا يعرف لغة ال100٪، لا توجد هذه اللغة إلا في انتخابات العالم الثالث. العلم كالعدالة؛ كلاهما أعمى، أما إن أبصرا وحكما طبقا لشكل أو انتماءات المتحاكمين، فلا علم لدينا ولا عدالة، وأبشر بطول إقامة في القاع، ففي القاع متسع للجميع، لنستكمل هناك عبثنا على مهل، في نعيم من الجهل!