أن يكون هناك حرص شديد على صديق لك، تقاسمتما معًا أيام الخطر والمعاناة، وأيام القمة والعزة، فهذا ما يشير إلى أخلاق رفيعة، ووفاء نادر. لكن عند إدارة أمم وتسيير حركة شعوب، والمشاركة فى صنع التاريخ، فإن قيم الصداقة لابد أن تتراجع بعض الشىء وتتقدم -دائمًا- مصلحة الأمة، والمثل الأخلاقية العليا.. ولعل فى قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ابنته "فاطمة" لو ثبت عليها أنها سرقت، فلابد أن يوقع عليها الحد المقرر فى كتاب الله. وعلاقة جمال عبد الناصر بعبد الحكيم عامر، الذي كان قائدًا للقوات المسلحة، علاقة فريدة حقًا، حار فى تفسيرها كثيرون، وتداولتها أقلام عدة، ونحن لا نزعم أننا سنقدم القول الفصل، وإنما "رؤية" من واحد من الناس كان يتابع ويعايش ما قُدر له أن يعايشه من أحداث، لقد كانا أقرب صديقين فى الإعداد لثورة يوليو 1952، والاستعداد لتحمل تبعات فشلها لو حدث.
وعندما نجحت الثورة وتولى اللواء محمد نجيب قياداتها فى بداياتها، كان عبد الحكيم، برتبة "صاغ" ، والتي تسمى الآن "رائد"، والمعروف أنها تقع فى أوائل سلم ترقية الضباط، وتولى الرجل موقع مدير مكتب محمد نجيب.
ثم إذا بعبد الحكيم يقفز مرة واحدة إلى رتبة "لواء"، ويكون مسئولاً عن قيادة القوات المسلحة! وكل من له أدنى خبرة فى هذا المجال يعرف أن القاعدة الغالبة، ألا ينتقل الضابط من رتبة إلى أخرى إلا بعد فِرق، ومجاهدات ودراسات، فكيف يقفز ضابط صغير مرة واحدة رتب "مقدم – عقيد – عميد"، خاصة أنه لم يمر فى تلك الفترة عبر معركة حربية أبلى فيها بلاء نادرًا، ترتب عليه الكثير للوطن.
كان الهاجس "الأمني" هو المسيطر.. الخوف على الثورة، وعمادها الأساسي هو الجيش، فلابد أن يقوده "الصديق" لا "الخبير".
وعندما تحالفت بريطانيا وفرنسا وإسرائيل للهجوم على مصر أواخر عام 1956، كان هذا اختبارًا مفزعًا لحكيم، لكن من حسن حظه أن توافقت القوتان العالميتان فى ذلك الوقت: الاتحاد السوفيتى، وأمريكا، على معارضة الهجوم وضرورة الانسحاب، وتم هذا، لكن كثافة الدعاية المصرية صورت لنا أننا "انتصرنا"، وبالتالي لم ينكشف عامر كقائد عام لقواتنا المسلحة.
كانت المشكلة الكبرى هى أن عبد الناصر قد ترك الجيش لعامر، ثقة وطمأنينة، لكن السلطة المطلقة كما هو معروف مفسدة مطلقة، حيث بدأ التمدد العسكرى فى شرايين المجتمع المصرى، إلى درجة أن كُلف عامر بلجنة كانت مهمتها متابعة بقايا الإقطاع، وكذلك -فى فترة أخرى- ملف النقل العام، فضلاً عن شئون الكرة، وغيرها، فتجذّر التداخل بين السياسي والعسكري.
كان عامر رجلاً طيب القلب، والتف حوله ضباط كثيرون، شعروا بأنهم هم المسيطرون، وهم الحكام، وهم الذين إذا أرادوا شيئًا فلابد أن يكون.
حتى الوحدة مع سوريا، أُرسل عامر إلى دمشق لكي يدير الأمور هناك، وزحفت معه "الشلة" العسكرية، فكان ما كان من فشل الوحدة، مع الإقرار بفكرة المؤامرة الخارجية، التى لا تعفى المسئولية المصرية التى مثلها عامر.
بدأ عبد الناصر يشعر بالخطر، لكن صداقته لعامر غلّت يده، ففكر فيما سمى بمجلس رئاسي، من مجموعة ممن تبقى من مجلس قيادة الثورة، وأراد أن يسحب بعض اختصاصات عامر، فإذا بعامر يقدم استقالته، التى تذكر فيها الحقوق والواجبات والديمقراطية والحريات، وانتشرت صور الاستقالة بما فيها.
وكان تحرك شلة المنتفعين من حول عامر إلى درجة التهديد بالانقلاب على عبد الناصر، فاضطر إلى الرضوخ، وإبقاء سلطات عامر على ما كانت عليه، فتوطد موقع الأنف العسكرى فى السياسة. ثم كانت الحرب العبثية فى اليمن مدة خمسة سنوات، كانت فرصة مع الأسف لعدد غير قليل من الانتفاع المادى.. وفى أثناء كل هذه السنوات بدأت أضواء السلطة والقوة تجتذب بعض الفراشات، فإذا بفنانات كان بعضهن يستخدمن لا أخلاقيًا فى أغراض سياسية، وتنتشر قصص اعتماد خورشيد وصلاح نصر، ومها صبري وعلى شفيق، وأبرزها عامر نفسه وبرلنتي عبد الحميد، التى تزوجها.
وما دام الأمر أمر زواج، فلا لوم هنا، لكن القضية قضية موقع الرجل.. الثانى فى قيادة مصر الناصرية، وقائد عام القوات المسلحة، وصورتها فى أذهان الناس قد ارتبطت بأدوار الإغراء باستمرار بالأفلام السينمائية، دون أن يعنى هذا بالطبع تطابقًا مع الحياة الخاصة، لكننا نؤكد أن من يحتلون المواقع التاريخية العليا، لا ينبغي لهم أن يتصرفوا فى الشئون الخاصة مثل سائر وعموم الناس! وفى هذه الفترة تمت ترقية عامر إلى رتبة "مشير"، حيث سخر من ذلك الفيلد مارسشال مونتجمرى قائد القوات البريطانية فى شمال أفريقيا، الذي انتصر على قوات المحور فى الحرب العالمية الثانية، كما روى محمد حسنين هيكل فى كتابه "زيارة للتاريخ"، واصفًا إياها -مونتجمرى- بأنها رتبة سياسية وليست عسكرية، حيث لا يحصل عليها إلا القائد الذي خاض معركة كبرى، يكون لها دور مهم فى تاريخ الوطن، وهو ما حققه مونتجمرى.
ولم يكن عامر من هذا النوع الذى أشار إليه مونتجمرى، فمستوى الرجل هو ما كان عليه عندما كان "رائد".. وكان من أبرز نتائج نوعية مثل هذه القيادة.. ما حدث من هزيمة يونيو 1967، التى دفع ثمنها ملايين من المصريين، بل وملايين الوطن العربى.