أظن أن مُتَابِعيِّ عبر مقالين فائيتين قد أصبحوا الآن مستعدين للخوض معي فى أعماق الأزمة الإيديولوجية التي صبغت التراشقات التي اندلعت بين الأعضاء الجمهوريين ومثلهم الديمقراطيين بمجلس النواب الأمريكي، والتي –ربما –أشار إليها اوباما فى معرض تعليقه على مواقف الجمهوريين بقوله " أنهم يشنوا حمله إيديولوجية لحرمان الشعب الأمريكي من التامين الصحي " فأودت-تلك المناوشات - بمشروع الموازنة الأمريكية التي كان مقررا أن يجرى العمل بها منذ أول أكتوبر الماضي حال إقرارها.ولما تعثر الموافقة عليها لرفض الجمهوريين تمريرها، كادت الأزمة أن تضع الحكومة الأمريكية على شفير الإفلاس وما أفضت إليه من إخطار أخرى سبق الإشارة إليها، وقلنا أن ظاهر الأزمة المُشَاهَدْ من جبل الثلج الطافي على صفحة الماء، كان رفض الجمهوريين رفع سلطة الاقتراض فى الموازنة الجديدة للإدارة الأمريكية حتى يعرقلوا تمويل مشروع الرعاية الصحية الذي حاز سريانا قانونيا بموجب القضاء بدستوريته من قِبَل المحكمة الفيدرالية العليا.وهو المشروع الذي ناضل الديمقراطيون لإرسائه إبان إدارة الرئيس كلينتون فى عام 1992،و مرورا بالفترة الأولى من إدارة الرئيس اوباما ولم يحققا أي تقدم يذكر إلى أن بوأه الأخير شعارا لبرنامجه الانتخابي وفاز على إثره باكتساح بفترة ولاية ثانية. ويستفيد من مشروع الرعاية الصحية أكثر من 20 مليون من اصل 50 مليون أمريكي يفتقروا للتامين الصحي، حيث يمنح كل من يقل دخله عن 45960 دولارا سنويا إذا كان بمفرده أو 200 94 دولارا سنويا لمن له أسرة مكونه من أربعة أشخاص دعما صحيا وبجوده عالية مجانيا وكاملا، ويصل نسبة هؤلاء السكان حوالي 7% من إجمالي عدد سكان أمريكا وهى نسبه ليست بالقليلة ما يمكن اعتباره –من وجه نظرهم – سبه فى جبين اقتصاد اكبر دوله فى العالم، لاسيما أن كامل مواطني دول أخرى اقل اقتصاديا، يتمتعوا بتأمين صحي شامل مدعوم من الدولة. ويرفض الجمهوريين المشروع بزعم انه يتنافى مع المعتقدات الأمريكية حيث يمول وسائل منع الحمل ويحض على ا لإجهاض كما يدعوا أن المشروع لمجرد تحقيق أهداف انتخابيه للديمقراطيون، وان البنية التشريعية للقانون ليست جيده فيما يتعلق بولاية أصحاب الأعمال. والواقع أن إعادة قراءة الأحداث بوتيرة أكثر عمقا يكشف عن وجود اختلافات إيديولوجية واسعة تفصل بين توجهات كلا الفريقان بما يكشف عن باطن جسم جبل الثلج الغاطس فى أعماق المياه.فلقد بان من توجهات الحزب الديمقراطي منذ عقود انحيازه لمصالح الطبقتين العاملة والوسطي فى الكثير من برامجه.فتدور برامجه على إصلاح منظومة الرعاية الصحية والاهتمام بوسائل الضمان الاجتماعي، وتخفيض مصاريف التعليم وإصلاح النظام الضريبي بزيادة شرائحه على كبار الممولين وتخفيضها على صغارهم كما يهدفوا فى إعداد موازناتهم إلى إتباع سياسة زيادة الإنفاق الحكومي بما يكفل زيادة قدرات الحكومة على تحسين خدمات الصحة والتعليم والإسكان. أما سياسات الحزب الجمهوري فتميل تحت ضغط المجموعات اليمينية الراديكالية المتشددة وبالأخص مجموعة أو حركة "الشاي" نحو الرأسمالية المتوحشة وإتباع الأفكار النيوليبراليه التي هبت رياحها العاتية بعنف شديد منذ ما يقرب من أربعة عقود إبان إدارة الرئيس ريجان، فجرفت إلى قدر كبير السياسات العاقلة التي كانت تعطى دورا كبيرا للدولة فى إدارة النشاط الاقتصادي، وهى تلك السياسات التي قامت على أكتاف المُنَظٍر الانجليزى "كينز" حيث ساد –وقتها- ما سمي" دولة الرفاه" كما أرست لقواعد هامه ومرشده لإقامة العدالة الاجتماعية وحصول الطبقة المتوسطه وكذا العاملة على الكثير من المكتسبات، كزيادة معدلات التوظف وارتفاع الأجور وتقريب الدخول بين المواطنين بالإضافة للعديد من الخدمات الاجتماعية. بيد انه بقدوم العقد الثامن من القرن المنصرم تمردت الإدارة الأمريكية تحت إدارة الرئيس ريجان (الجمهوري) على تلك السياسات واتخذت أخرى مغايرة لتلك الأفكار التي كانت تنعت بالكينزيه تجسدت فى خفض كبير فى الإنفاق الحكومي الموجه للطبقة الوسطي مما أدى لتدهور مستويات معيشتهم، وكان ذلك بهدف تخفيض الضرائب التي يتكبدها أرباب الأعمال وتصفية القطاع العام عن طريق إتباع سياسة الخصخصة وإطلاق قوى السوق وآلياته فى بيئة يغلب عليها الاحتكار، ومن ثم تم إعادة توزيع الدخل القومي لصالح طبقة رجال الأعمال فزادت أرباحهم بفظاعة لدرجة أن 1% من السكان كانوا يحوزوا 34,3% من الثروة،كما اتسعت الفروقات الاجتماعية وتضاعفت الثروات الشخصية جراء المزج بين المصالح الخاصة والعامة ،كما تضخمت السلطة التي تمنحها تلك الثروات .فعلى سبيل المثال فما بين 1984-2009 ارتفعت ثروات أعضاء مجلسي الشيوخ والنواب بنسبة 260% فيما استقرت ثروات باقي العائلات الأمريكية تراوح مكانها. وفى دراسة لمعهد السياسة الاقتصادية الأمريكي نشرت عام 2010اشارت إلى ان10% من الأمريكيين قد حصلوا على 100% من معدل نمو الدخل(ما بين الأعوام 2000 - 2007)وحصل 5% من السكان على 63.5%من ثروة الأمة (عام 2009 )فيما الأغلبية الساحقة إلى تؤلف 80%من السكان حصلت على 12.8%فقط . كما قدر عالم الاقتصاد الحائز على جائزة نوبل فى الاقتصاد "جوزيف إستيجليتز" أن 1% من السكان يحصلون على 25%من الدخل القومي الأمريكي، كما رصد الكاتبان الألمانيان "هانز مارتن &هارالد شومان " فى كتابهما "فخ العولمة"الذي صدر بمطلع التسعينيات أن 358 مليارديرا فى العالم(معظمهم أمريكان)يمتلكون ثروة تضاهى ما يملكه 2.5 مليار من سكان المعمورة أي ما يزيد على نصف سكان الكره الأرضية. فلم تعد أمريكا امة الطبقة الوسطي كما كانت.مثلا لم تشهد الطبقة العاملة على مدار الثلاثين سنه الأخيرة ثمة زيادة حقيقية فى الأجور كما لم تعد النقابات تمثل سوى 12%بعد أن كانت تمثل 33% من عدد العمالة وفى مجال الحديث عن الفقر فقد اتسع رقعته ليشمل ما يقارب الخمسين مليونا من الأمريكيين الذين يتلقون حاليا كوبونات غذائية من الحكومة(من تقارير وزارة الزراعة الأمريكية ), وهناك 14 مليون أمريكي عاطل عن العمل، وعشره ملايين آخرين لا تتوفر لهم وظائف دائمة. وجدير بالذكر أن النظام السياسي الأمريكي السائد والمتبع حاليا يعتمد على ما يسمى بنظرية" السلطات والموازنات" التي تقوم على منح الرئيس الأمريكي سلطات واسعة وفى ذات المساحة تقييدا كاملا حيث تمنح الكونجرس بمجلسيه سلطات كاملة فى مناقشة وإقرار كل من موازنة الدولة الاتحادية فضلا عن الموازنات الفيدرالية لكل وزاره أو مؤسسه اتحادية وذلك بشكل تفصيلي دقيق
ومن العرض السابق أتضح جليا أبعاد الشقاق بين توجه الحزبين والشُقًه الايديولوجيه التي تفصلهما والتي هزت صورة أمريكا المالية والاقتصادية وعرضت العالم لشبح الركود الاقتصادي مما قد يدفع الناخبين الأمريكيين (الذي تشكل الطبقة الوسطى معظم كتلتهم )، فى أي جولات انتخابيه مقبله إلى انتخاب برلمان يكون داعما للبيت الأبيض وذلك على عكس ما كان يتم –فى الماضي – حيث كان يتم فوز الأغلبية التشريعية من المرشحين المناهضين لحزب الرئيس . كما يتوقع أن يكون العقاب الانتخابي للأعضاء الجمهوريين لا شك قادم برغم أنهم فى نهاية الأمر قد رضخوا لتفاهمات انتهت بتمرير موازنة مبتسرة ترتب عليها إنقاذ الحكومة من الشلل ورفع سلطه الاقتراض حتى 7 فبراير وما استتبعه من توفير التمويل اللازم للسير قدما فى إصلاح النظام الصحي الذي سيخدم الطبقة الوسطي.
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته. https://www.facebook.com/pages/Gamal-Elmalt/صفحتنا على الفيسبوك