انه لأمر يصيب العقل بشدة الدوار من فرط الذهول وعظم الدهشة، فبمجرد أن وقع وأصدر الرئيس الأمريكي صباح يوم الخميس 17 أكتوبر الماضي "قانون التسوية"الذي صدق عليه كل من مجلسي الكونجرس(مجلس النواب ثم مجلس الشيوخ ترتيبا )بالكابيتال هيل منتصف ليله الأربعاء -الخميس، والذي بموجبه تم منح الحكومة الأمريكية سلطة الاقتراض مجددا وفقا لموازنة مؤقتة أمَدُها حتى 7فبراير المقبل ( ما أطلق عليه رفع سقف الاقتراض الحكومي)، وجرى العمل بالقانون، حتى أعلن عن تخطى الاقتراض الحكومي خلال 48ساعه فقط، لنحو ألف مليار دولار جديدة، ليقفز بذلك اجمالى الدين العام الأمريكي فوق سقف ال 17700 مليار دولار (كان قبل 48 ساعة 16700مليار دولار). فالاقتصاد الأمريكي الذي بلغ حجمه نهاية عام 2012نحو15900 مليار دولار والذي يشكل اكبر اقتصاد على وجه الأرض هو ذاته-أيضا- اكبر مديون على سطحها، وأصبح مجمل الدين العام يشكل نسبه اكبر من 100% من إجمالي الناتج الأمريكي المحلى. ما أصبح يشكل صداعا لباقي دول العالم ذلك الخلل الاقتصادي الداخلي المتمثل فى استدامة واضطراد عجز الموازنة العامة الأمريكية الذي بلغ نحو 900 مليار دولار (موازنة عام 2012-2013 )، يضاف إليه خلل اقتصادي خارجي متمثل فى عجز فى الميزان التجاري مزمن ومستمر منذ 30 سنه، يتراوح ما بين 200 إلى 600 مليار دولار سنويا بحسب عجز السنوات، ما سمح لدول عديدة تُصَدِرَ إنتاجها لأمريكا من مراكمة فائض من الدولارات تملكه تلك الدول، بلغ للصين وحدها نحو 3000 مليار دولار، تستثمره داخل أمريكا فى شراء سندات أمريكية. فلقد استطاعت أمريكا أن تمتص لسنوات طويلة مجمل الادخار العالمي البالغ 6000 مليار دولار ذلك لفرط الثقة فى الاقتصاد الأمريكي الذي هو اقتصاد أقوى دوله عسكريا على وجه الأرض. و لقد برز على سطح الأحداث أن الادخار العالمي أصبح لا يمكنه تغطية العُجُوز فى موازنات الحكومات الغربية و على رأسها أمريكا، ويؤدى كلا من الخلل الداخلي والخارجي الأمريكي لانخفاض قيمة الدولار ومن ثم لخسائر لكافة دول العالم لانخفاض قيم أصولها المالية التي تحتفظ بها ببنوكها المركزية فى صورة احتياطي عملات من الدولار بالإضافة لأنها تستثمر باقي احتياطياتها فى السندات الأمريكية وتستحق عليها عوائد بالدولار . ومبعث الحيرة المخلوطة بألم المرارة أن الولاياتالمتحدة صاحبة الولاية احصريه على طبع الدولار تستغفل العالم وهو بكامل عقله وشامل وعيه بل -وذلك هو الادهى- بمنتهى القبول والرضي ماعدا أن يُسْمَعَ نشاز صوت هنا أو هناك يصدر همسا بين فِنْيَهٍ وشبيهتها مُغَلَفَا بمعسول القول وعتاب العشاق.فبعد أن فصم الرئيس الامريكى نيكسون العلاقة بين الدولار والذهب عام 1971 بقرار أمريكي أحادى ترتب عليه نقض معاهده بريتون وودز التي وقعتها أمريكا مع معظم دول العالم عام 1944 والتي بموجبها اُجلس الدولار على عرش عملة الاحتياط العالمي وحيداً، واُنزل من فوق العرش الجنيه الاسترلينى، كانت تبيح لأي دولة أن تبادل ما معها من دولارات تجمعت لديها، بالذهب، فما عليها إلا أن تتوجه إلى "الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي " (البنك المركزي الأمريكي ) الذي كُلِفَ طبقا لتلك المعاهدة بان يقبل الدولارات ويبادلها بذهب وفقا لسعر تحويل يبلغ 35 دولارا مقابل أوقيه من الذهب (أوقيه الذهب الخالص =31.103جرام). وقد تسبب قرار نيكسون المفاجئ والصادم لكافه دول العالم بالتفريق بين الدولار والذهب بطلاق بائن ثم أعطى أمريكا مطلق اليد فى الإسراف والإفراط فى طبع الدولار علاوة على تخفيضها لقيمته باستمرار وأصبح من يرغب فى مبادلة الدولار بذهب، أن يلتزم بسعر التحويل الذي يُعْلَن عنه ببورصات وأسواق المال الأمريكية ب" وول استريت" وغيرها من أسواق المعادن النفيسة حيث يتحدد السعر من تفاعل العرض والطلب طبقا لآليات السوق ،وليس إنفاذا للسعر المحدد وفقا للمعاهدة التي انتهكتها أمريكا بعد عام 1971 . وجدير بالذكر أن أوقية الذهب الآن تصل بتلك الأسواق المالية إلى ما يقارب نحو 1600 دولار ، ما يعنى أن أمريكا قد خفضت عملتها –عمدا وفعليا - المتداولة عالميا منذ اتفاقية بريتون وودز عام 1944 حتى الآن لأكثر من 4600%(1600/35 =46.7) . وقد َسَوغ تَخَفف أمريكا من التزامها الأخلاقي والقانوني منذ عام 1971، لها أن تسرف فى إنفاقها بشراهة ما شاءت إرادتها الأحادية وشاء لها هواها، فطفقت تشترى من دول العالم - المرحبة بذلك - ما تمليه عليها أطماعها وما تهوى نفسها من أصوله وثرواته لزيادة رفاهة المواطن الأمريكي، وتدفع المقابل بالدولار، فإذا ارتد الدولار مره أخرى من حوزة دول العالم لأمريكا فى صورة مقابل لمبيعات أمريكية لتلك الدول فيؤدى ذلك لرواج سوق المبيعات للبضائع الأمريكية الباهظة الثمن بالمقارنة بمثيلاتها الأوربية أو الصينية فضلا عن ازدهار إنتاج المصانع الأمريكية الذي ينعكس على الاقتصاد الأمريكي فى انخفاض أعداد المتبطلين والعاطلين من قوة العمل الأمريكية دوناً عن تزايد بطالة مواطنين العالم كله وتميزا عليهم. اعتذر للقارئ من أن يصاب بدوار من هول تلك الدوامة من الأرقام الفلكية التي توضح اتساع الهُوّه الاقتصادية العالمية نتيجة الإسراف الترفي الأمريكي على حساب ثروات وموارد دول العالم وشعوبها المسكينة بل وشبه المعدمة.وكما يقولون الشئ بالشئ يذكر فإن السبب الرئيس فى أزمة أمريكا الاقتصادية يتلخص فى زيادة نفقاتها عن إيراداتها للعديد من الأسباب أهمها:-- 1- الإنفاق العسكري المهول نتيجة حروبها المتتالية منذ خمسينيات القرن الفائت فى كوريا ثم فيتنام ثم أفغانستان ثم العراق ثم مشاركتها فى الحرب فى ليبيا ثم اليمن مرورا بما يستجد، وهلم جرا...فميزانية الدفاع الأمريكية تكاد توازن ميزانيات أوربا بكاملها ومضاف لأوربا كل من ميزانيات الصين وروسيا مجتمعين فهي تبلغ تقريبا نحو 700 مليار دولار سنويا . 2- انخفاض الادخار القومي لدى الأمريكيين كنسبه من الناتج المحلى الامريكى فيصل إلى 15% بالمقارنة بدول متقدمه أخرى أوربية وآسيوية فيصل إلى 20-25%.ويعزى نقص حافز الادخار لدى الأمريكيين إلى نمط الحياة السائد عندهم من اعتمادهم على القروض فى تسيير معيشتهم ابتدءا من الاقتراض لشراء المنازل أو لشراء السيارات وسائر السلع المعمرة كالثلاجات وغيرها وأثاث المنازل.. 3- السياسات الاقتصادية الاستراتيجية الأمريكية الداخلية التي تدعم المنتجين الأمريكيين ماليا مقابل التوقف عن الإنتاج وبالذات فى مجال الصناعات الاستخراجية (البترول ) بهدف صون الموارد بباطن الأرض، و مجال تخفيض الغلة بهدف الحفاظ على خصوبة الأرض الزراعية. مما سبق عرضه يستلهم فكرى وظني وخيالي استدعاء فكرة مباراة صفرية ( zero sum game) تقام على ارض متسعة تغطى كامل العالم وتدور رحاها بين فريقين الأول أمريكا و الثاني يشمل العالم برمته، وكما هو مشهور عن خصائص تلك اللعبة أن الكسب لفريق يكون"مطلقا"، فيما الخسارة يكون من نصيب الآخر –أيضا- "مطلقا" حيث لا يجنى الأخير إلا صفرا...وهكذا يُدار العالم فى هذه الآونة. اعتذر للقارئ – مرة أخيرة - فقد استغرقت المقدمة الطويلة المديدة، السابقة، معظم حيز مقالي لإيضاح ملامح وأبعاد قرار الرئيس الأمريكي برفع سقف الدين الأمريكي، الذي أعلن فور تمرير الكونجرس للميزانية المؤقتة المبتسرة فى صباح الخميس 17 أكتوبر ، وتأثيراته على دول العالم، ، ولم يتبقى لي من مساحه إلا بقايا من بقايا ، لاستكمال نقاش الموضوع الأصلي للمقال الذي وعدت به فى العدد السابق ، عن الجزء الثاني الغاطس والمختفي من جبل الثلج الطافي على سطح الماء المائج ، من مبررات الخلاف بين الجمهوريين والديمقراطيون فى الكونجرس لتمرير الموازنة المرفوضة للعام المالى2013-2014التى كان مقررا العمل بها أول أكتوبر الماضي، والتي كانت تتضمن رفع سقف الاستدانة الحكومية مما نجم عن ذلك التأخير فى تمريرها إلى شلل العمل بدواوين ووكالات الحكومة الفيدرالية لمدة 16 يوما ، وتفجر الحديث عن إفلاس أمريكي محتمل، حيث حبس العالم أنفاسه-وقتها - ترقبا لما يسفر عنه هذا الصراع الناعم والتراشق الأخرق الذي كاد أن يصيب اقتصادات العالم بالركود الاقتصادي . وهنا تبرز كلمة السر التي تكشف تلك المبررات وتتلخص فى السياسات الاقتصادية التي اتبعتها أمريكا بوصفها زعيمة العالم الرأسمالي منذ ولاية الرئيس رولاند ريجان بالتضافر مع تولى "مارجيت تاتشر " رئاسة الوزراء البريطانية، وهو ما اصطلح على تسميته " الليبرالية الجديدة" التي تطير مغردتا على أجنحة ما يطلق عليه " العولمة الاقتصادية " Nea Libralism فى سماء العالم بما فيها أمريكا، فلا يُكاد يَُرى ' تّفّرد إحداها عن ثانيتها "Globalisition" فكلاهما ملتصقان معا يذوبا عشقا وصبابة، ولو أن الأوضاع أصبحت تشي بأن السحر قد انقلب فيها على الساحر، كما يُرْوى فى النوادر التراثية العربية. اُفرد له مقالي القادم بحول الله ومشيئته الأزلية إذا امََد للعمر بقيه.
"والى حديث مقبل"
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته. https://www.facebook.com/pages/Gamal-Elmalt/صفحتنا على الفيسبوك