كم هي الأحزان مريرة وما أثقلها على القلم حين يسطرها ...وعلى العين حين تتنقل بينها ...ثقيلة بحجم الجرح وطول الوجع ...وغائرة بعمق الوجدان ...ذكريات ماحلة تتخطفنا على جدران السجن ...بين صورة السجان وهو يضرب وصورة له وهو يسب ويلعن وصورة أخرى يتوعد بالحرمان من الحرمان .....نعم والله يتوعدنا بأنه سينقلنا من عنابر الموت الجماعي إلى عنبر الموت الإنفرادي يقول الواحد منا (أموت على الفرشة بين اخواني احسن من موتة الانفرادي) محمد سيد متولى أبو عمرو في العقد الخامس من عمره عاصرته في سجن النطرون في آخر سنة بالأسر ..يومها سمحوا لنا بدخول الصحف والجرائد مع فتح الفسح عام 2003 ...كان الرجل طيبا ومكلف بأن يستلم الصحيفة والجريدة من الشاويش ثم يطمس الصور العارية بالطامس الأسود كان أبو عمرو كغيره من المعتقلين ينتظر زيارة أهله من حين لحين ويستعد للزيارة يجهز هداياه لأولاده يعطيها لهم أثناء الزيارة وجدته يوما منشغلا وبيده قطعة قماش بيضاء في حجم المنديل ومعه إبرة وخيوط ملونة كتب على المنديل كلمة (إهداء إلى ابنتي الحبيبة نسمة) ثم مر عليها بالخيط الأحمر والأزرق وجميع الألوان ورسم في جوانب المنديل وردتين ويد تحملهما تحت الكلمة المكتوبة جهز الرجل هداياه وحديثه عن نسمه بنته لا ينتهي وأولاده ...يبدو أنها الصغرى التي رُزق بها قبل اعتقاله أي قبل أحدى عشر سنة من تاريخ الواقعة تأخرت زيارته عن موعدها وانقطعت الأخبار حتى من أهل بلدته ...وقائل لعله خير وقائل ظروف يا ابو عمرو وفي يوم من أيام الله في الزنزانة ...استلم الرجل جريدة الأهرام من الشاويش وبيده الطامس الأسود ليمحو الصورة العارية قبل أن يقرؤها الأخوة صفحة تنقله لصفحة وصورة تسلمه لصورة محتسبا عمله عند الله إلى أن انتهى لصفحة الحوادث مانشيت كبيرة (مصرع عائلة بأكملها في حادث تصادم على طريق الفيوم ...) عائلة .....الفيوم ..... حادث كان هذا هو المانشيت المر في حياته وكانت تلك التفاصيل مقاريض تنهش في أحلامه لم يشغله المراسل ولا الصحفي ولا الكاتب ولا حتى الصور التي يستعد لطمسها في التو في التفاصيل المرهقة (مصر أم وابنتها وجدة كانوا في طريقهم لزيارة ذويهم في سجن وادي النطرون) نسمه محمد السيد واسم زوجته ووالدته ضمن ضحايا الحادث ومعهم أهالي أخوة آخرون في زنازين أخرى لم تنفجر دموعه أولا ولا انتحب انتحاب الجازع المعترض كان أول ما فعله سجدات لله السجدة الأولى صرخ وقال (مُتى يا نسمه إنا لله وإنا إليه راجعون ...ثم يسجد لله ويطيل ) السجدة الثانية صرخ قائلا باسم زوجته (مُتي يا ام عمرو .زإنا لله وإنا إليه راجعون ....ثم يسجد ويطيل السجود) السجدة الثالثة باسم امه ساجدا يقول (متى يا امي إنا لله وإنا إليه راجعون ثم يسجد ويطيل ) الحدث خطب وزلازل في النفس إذا كورت وبراكين في الوجدان إذا الأحلام انكدرت وإذا المشاعر سُعرت بلظى الحرمان المستعر مؤدة هي الفرحة فبأي ذنب في سجون الظالمين قُتلت ... أخرج الرجل من جيبه المنديل ليس منديل الدموع ولكنه (منديل نسمه بنته) كان كل صباح يعطره انتظارا لزيارة بنته ...ثم هو اليوم يحتضنه ونسمه تفترش التراب في المقابر مع جدتها وأمها أخرج الرجل منديله ووردتان ذابلتان على أنسجة المنديل تشهد اللحظة والوجود يشهق معهما لهول الحدث يمسح الرجل دموعه بمنديل بنته نسمه مودعا زوجته ووالدته الحانية والبقية من أولاده في البيت لا راع ولا أنيس لهم والرجل مع ذلك يحتسب ويصبر في عزائي له وجدت الرجل في قمة الرضا لا يقول الا ما يرضى الله بعد هذه الحادثة كنا نصطحب ابا عمرو معنا عندما نذهب لنعزي أحد رفقائنا مات والده أو أمه أو ابتلي بمرض وأبو عمرو مبتسما يتقدمنا للعزاء قائلا لصاحب العزاء (احتسب داللي راح مني ما رحش من حد...) كانت هذه الدراما التراجيدية في سجن النطرون بينما كان مبارك وحبيبه وصفوته ونظيفه وشريفه وعزه وعزمه وبطرسه ينعمون في قصور الاتحادية والتبين والعروبة اللهم انتقم من الظالمين أجمعين ودماء نسمة يلعنهم ليل نهار وللأحزان والحرمان تفاصيل أخرى عصية أبو خلاد هشام فتحي المنيا