يحار المرء وتنتابه الدهشة بل تكاد تعقد لسانه الحيرة، وهو يتابع- متعجلًا- أخبار المباحثات الثنائية بين مصر وصندوق النقد الدولي حول القرض المرتقب الذي تلاقت إرادة الطرفان حوله، فيبادر نفسه بسؤال: هل البلد في حاجه إلى أموال دولارية؟ فتعاجله الإجابة بلهفه: نعم وبشده؛ ويقرع أذنيه السؤال الثاني: هل الحكومة المصرية ترغب في إتمام القرض؟ الإجابة: نعم ولو أنها مكرهة ويحملها على ذلك اعتبارات عديدة.. وهنا يبرز السؤال المنطقي الأخير :هل الصندوق لديه الرغبة في الإقراض؟ الإجابة: الشواهد تدل على ذلك، فهو يوفد ممثليه إلى مصر ويستقبل المسئولين بمقره بواشنطن العاصمة؛ وتظل تدور المباحثات وتستمر ردحًًا من الزمان إلا أننا نخلص أننا نجهل ما تم إنجازه فيها-على وجه الدقة- برغم تدفق التصريحات المنفردة والمشتركة التي تؤكد رغبة الطرفان في تقدم المفاوضات! لكن على ماذا؟ لا نعرف، واستكمالًا للحكي تحضر إلى مصر المدير العام للصندوق كرستين لاجارد، وتجري لقاءات ومقابلات و تطلق تصريحات لا أقول يغلب عليها ولكن يختلط فيها التفاؤل مع التشاؤم والأمل مع الألم، كما يمتزج فيها وجهات النظر بالإملاءات وتؤكد –في نهاية تصريحاتها –قبل مغادرة القاهرة حقيقة يعلمها الاقتصاديون جيدًا، وهي أن الصندوق لا يعطي منحًا مجانية، ولو أن عامة الشعب لا يلتفت أو يتوقف كثيرًا عند هذه الحقيقة فلا يهمه كيف ومتى سيسدد القرض، وأين الأموال التي ستتولد لتفي بخدمة هذا الدين الجديد الذي سوف يضاف - كما يقولون- على النوتة، بعد أن فاض الكيل بالديون والديانة؛ حيث تخطى الدين العام حدود الأمان هو وفوائده؛ حيث تشير تقارير وزارة المالية بأنه يصل إلى 1,253 تريليون جنيه بنهاية سبتمبر 2012 وبنسبة 69,7% من الناتج المحلى الإجمالي (1) يضاف إليها 33.4مليار دولار دينًا خارجيًا، ولكي نتصور الموضوع بنظرة بانورامية متفحصة يلزم أن نرجع قليلًا في أعماق التاريخ الحديث، فنجد أن صندوق النقد الدولي كأحد الوكالات المتخصصة التابعة للأمم المتحدة إنشاء عام 1945 ضمن منظومة بريتون وودز التي تمت بولاية نيو هامشاير الأمريكية، وكانت تضم في عضويتها مصر (انضمت في 27ديسمبرعام 1945 ) كمؤسسة مركزية في النظام النقدي الدولي الذي تمخض بعد الحرب العالمية الثانية، وتصل حصة مصر النقدية فيه حسب آخر زيادة (في عام 1999) بقيمة 943,7 مليون وحدة سحب خاصة (تعادل 1,5 بليون دولار بحسب تقويم الدولار بنهاية عام 2011 ) وللمعلومية فإن الحصة تتحدد بناءً على إسهام الوزن النسبي للدولة العضو في الاقتصاد العالمي ويترتب على ذلك بحسب الصندوق ثلاثة اعتبارات الأول التزام العضو المالي تجاه الصندوق، والثاني ما سيتمتع به العضو من قوة تصويتية، والاعتبار الثالث وهو الأهم ما يحق للعضو الحصول عليه من حجم تمويل، ويقدر ب 200% من حصة العضو (يذكر أن الصندوق حاليًا وافق مبدئيًا على أنه يمكن لمصر أن تحصل على 300% من حصتها بقيمة 4,8 بليون دولار أمريكي)، عمليًا يتحكم في سياسة الإقراض موافقة الدول الخمس الكبرى الأعضاء، تتصدرهم الولاياتالمتحدة ذات القوة التصويتية الأكبر ( تبلغ حصتها 17.6% من إجمالي الحصص ) ثم تليها فرنسا وبريطانيا وألمانيا واليابان، ولكي تحصل مصر على القرض فلابد من موافقة ثلثي أصوات المجلس التنفيذي للصندوق المكون من24عضوًا ممثلين ل 188 دولة، ويملك الصندوق مجموعة برامج مختلفة يراها لمساعدة الدول الأعضاء الذين يتعرضون لمصاعب في إصلاح موازناتها العامة وموازين مدفوعاتها تتلخص بشكل عام في إحداث الاستقرار والتوازن المالي لتلك الموازين -في كل من الأجلين القصير والطويل- دون النظر للأعباء الاجتماعية التي ستصيب الفئات الفقيرة من جراء ذلك، حيث تهوى بها للحضيض؛ وقد أثبتت التطبيقات العملية لتلك البرامج في العديد من الدول إلى تذمر تلك الفئات وثورتها الهادرة، لما تؤدي إليه من إحداث خلل اجتماعي خطير، حيث تشتد وطأة الجوع والفاقة والمرض على الطبقات الفقيرة في نفس الوقت الذي يتهاوى فيه الاقتصاد إلى القاع ، وكان من أشهر هذه البرامج الكلاسيكية التي عفا عليها الزمن التي يتبناها الصندوق برامج "التثبيت والتكيف الهيكلي" (2) الذي يمكن توضيح مفهومه بشكل عام - دون الدخول في تفصيلات فنية معقدة- بذكر المثل الشعبي المصري القائل "على أد لحافك مد رجليك" أي اضغط مصاريفك على قدر مواردك وإيراداتك، وتاريخ التجربة المصرية الفاشلة في التطبيق لتلك البرامج في يناير عام 1977 ليس ببعيد وما صاحبها من انطلاق الانتفاضة الشعبية التي أتت على كل البلاد من أدناها إلى أقصاها، مما ألجأ الرئيس المصري –وقتها – لوقف هذه البرامج والاعتماد على مساعدات عربية عاجلة. وقد وجد الصندوق والدول الكبرى التي وراءه -فيما بعد- أن سمعة الصندوق ساءت عالميًا بدرجة كبيرة فلجأ مُنَظِرو الصندوق لتطوير الأساليب مع تعديلات بسيطة في البرامج فبعد أن كان- في الماضي- يذهب خبراء الصندوق للدولة ومعهم الروشتة الجاهزة للإصلاح -من وجه نظرهم- انقلبت الصورة، وأصبح الصندوق يطالب مسئولي الدولة بتقديم خطة الإصلاح، ولكن لكي يعتمدها يجب أن تتوافق مع رؤى وأفكار الصندوق. وفي محاولة لتقديم إجابة على الاستفسارات التي وردت بصدر هذا المقال نرى أن هناك حزمة من العوامل يمكن تصنيفها إلى طائفتين أو مجموعتين الأولى سياسية واقتصادية في وحدة واحدة لا ينفصمان، والثانية مالية فنية بحتة، ولنشرع في ذكر الأولى وهي مجموعة العوامل السياسية والاقتصادية المؤثرة على قرار إقراض الصندوق لمصر نجد أن العامل الحاكم هو تحقيق مصالح الولاياتالمتحدة مهما أحاطتها بأغلفة من معسول الكلام كأحاديث الديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان والمرأة واضطهاد الأقليات وغيرهم من الافتكاسات الأمريكية، ولا يجب أن يغيب عن ذهن القارئ دومًا قول الشاعر العربي المفوه "أبو الطيب المتنبي" قوله: إذا رأت نيوب الليث بارزةً .:. فلا تظن أن الليث يبتسم . وتلك الفكرة المرجعية هي التي تحرك الولاياتالمتحدة وبدورها توجه صندوق النقد الدولي، وتقتبس الولاياتالمتحدة في سبيل ذلك أسلوب كان يّتبعه في سابق العصر والأوان داهية العرب، الحكيم "معاوية بن أبي سفيان" في شد أو إرخاء شعرة معاوية الشهيرة، وحيث إن سلسلة المطالب الأمريكية من مصر لا تنتهي فكانت تصنفها إلى مجموعتين تسند أداء المجموعة الأولى من المهام لوزارة الخارجية والثانية التي يطلقون عليها الأعمال القذرة تسند إلى ما يطلق عليه منظمات المجتمع المدني الأمريكية وأشهرها المعهد الديمقراطي والمعهد الجمهوري ومنظمة بيت الحرية، ونظرًا لضيق الوقت والمساحة نؤجل الحديث عن الدور الأمريكي القذر في إثارة القلاقل داخل ربوع الوطن بتشجيع الخونة والموالين ودعم الدولة العميقة ونعالج في هذا المقال سلسلة المطالب الأمريكية المعلنة التي تباشرها وزارة الخارجية تجاه مصر التي تقسمها إلى جرعات ليسهل تمريرها فكلما استجابت القاهرة لمطلب - مرغمة - دلفت واشنطن إلى مطلب آخر، وهكذا تدور رحى التفاوض تقدمًا أو تراجعًا دون أن تعبأ بحالة الاقتصاد المريض الذي هو في أشد الحاجة لجرعات الإنعاش وإلا تَردّت حالته ودخل في غيبوبة! فتارة تطلب ضمان أمن إسرائيل، والتأكيد على معاهدة السلام فتعلن مصر تأكيداتها على احترام تعهداتها الدولية السابقة، وتارة أخرى –كما تتناثر الأخبار- تطالب بعدم تطوير العلاقات مع إيران وتارة ثالثة تطالب بهدم الأنفاق مع غزة، وعدم دعم الأشقاء في غزه وهكذا وهكذا وضحت مصر بين شقي الرحى تقبل ببعض التنازلات تحت ضغط الحاجة وتحاول الإفلات من الأخرى لعدم تطابقها مع مبادئها القومية والوطنية والدينية، فضلًا عن تعرضها للضغوط الداخلية من قوى نظام العهد السابق التي تدفع سفينة الوطن إلى الهاوية حتى لا تفقد الكسب الحرام الذي امتصته من دم هذا الشعب إبان حكم الرئيس السابق. ننتقل –في عجالة- إلى الطائفة أو المجموعة الثانية، وهي مجموعة العوامل المالية المؤثرة على قرار الصندوق إقراض مصر، وكما سبق لنا أن قلنا إن الصندوق لم ولن يغير كثيرًا من أفكاره التي أصبح الكثير من الاقتصاديين يصفونها بأنها غير أخلاقية، والتي تستخدم أساليب تفتقد إلى المسئولية الاجتماعية والإنسانية، وتعتمد –كما سبق القول- على إحداث التوازن القسري للموازنة العامة للدولة ففي جانب النفقات العامة يوصي بتخفيض دعم الغذاء والطاقة، وبالطبع تخفيض باقي النفقات العامة التي يناط بالدولة أداءها بحكم مسؤولياتها الاجتماعية والاقتصادية والقومية تجاه مواطنيها كالتعليم والإسكان والصحة، مما يجهد الطبقات الفقيرة ويزيد عليها مصاعب الحياة و قسوتها، كذلك تخفيض الإنفاق الاستثماري؛ وفى جانب الإيرادات العامة يوصي الصندوق بتعظيمها عن طريق فرض ضرائب جديدة بأنواعها من ضرائب على الدخل وعلى الإنفاق (المبيعات ) وأخرى؛ بالطبع دون التعرض للجمارك لتعارضها مع مصالح الدول الغربية المصدرة لنا ويستعيض عنها بطلبه تعويم الجنيه للعمل على تخفيض قيمته أمام العملات الأجنبية، وبالتالي تنخفض الواردات وبالتالي تضيق الفجوة بينها وبين الصادرات وذلك سبيلًا لإحداث التوازن القسري في الميزان التجاري. [email protected] أرسل مقالك للنشر هنا وتجنب ما يجرح المشاعر والمقدسات والآداب العامة [email protected]